قال سبحانه وتعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦) } [ سورة الحجرات ]
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن جاءكم فاسق بخبر فتثبَّتوا من خبره قبل تصديقه ونقله حتى تعرفوا صحته؛ خشية أن تصيبوا قومًا برآء بجناية منكم, فتندموا على ذلك.
[ تفسير الميسر ]
فيه سبع مسائل :
الأولى ـ قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيْط. وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عُقبة مُصَدِّقاً إلى بني المُصْطَلِق؛ فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم ـ في رواية: لإحْنَة كانت بينه وبينهم ـ؛ فرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام. فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد وأمره أن يتثبّت ولا يَعْجَل؛ فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً؛ فبعث عُيُونَه فلما جاءوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم؛ فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه؛ فعاد إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت هذه الآية؛ فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم:
" التأنِّي من الله والعجلة من الشيطان "
وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المُصْطَلِق بعد إسلامهم؛ فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم؛ فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم قد همّوا بقتله، ومنعوا صدقاتهم. فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوِهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قِبَلَنَا من الصدقة، فاستمر راجعاً، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله، واللّهِ ما خرجنا لذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ وسُمِّيَ الوليدُ فاسقاً أي كاذباً. قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله: الفاسق الكذاب. وقال أبو الحسن الوراق: هو المعلن بالذنب. وقال ابن طاهر: الذي لا يستحي من الله. وقرأ حمزة والكسائي «فتثبتوا» من التثبت. الباقون «فَتَبَيَّنُوا» من التبيين { أَن تُصِيببُواْ } أي لئلا تصيبوا، فـ «ـأن» في محل نصب بإسقاط الخافض. { قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } أي بخطأ. { فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } على العجلة وترك التأنّي.
الثانية ـ في هذه الآية دليلٌ على قبول خبر الواحد إذا كان عَدْلاً، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعاً؛ لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها. وقد استثنى الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير؛ مثل أن يقول: هذا عبدي؛ فإنه يقبل قوله. وإذا قال: قد أنفذ فلان هذا لك هدية؛ فإنه يقبل ذلك. وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر. وكذلك إذا أقرّ لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعاً.
وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون ولِيًّا في النكاح. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون ولِيًّا؛ لأنه يَلِي ما لها فيلي بُضْعَها. كالعدل، وهو وإن كان فاسقاً في دينه إلا أن غيرَتْه موفّرة وبها يحمي الحريم، وقد يبذل المال ويصون الحرمة؛ وإذا وَلِيَ المال فالنكاح أوْلَى.
الثالثة ـ قال ابن العربي: ومن العَجَب أن يجوّز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبة مالٍ (كيف) يصحّ أن يؤتمن على قنطار دَيْن. وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلّون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم، ولا اسْتُطِيعت إزالتهم صُلِّيَ معهم ووراءهم؛ كما قال عثمان: الصلاة أحسن ما يفعل الناس؛ فإذا أحسنوا فأحسن، وإذا أساءوا فٱجتنب إساءتهم. ثم كان من الناس من إذا صلّى معهم تَقِيّةً أعادوا الصلاة للّه، ومنهم من كان يجعلها صلاته. وبوجوب الإعادة أقول؛ فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة مع من لا يرضى من الأئمة، ولكن يعيد سِرًّا في نفسه، ولا يؤثر ذلك عند غيره.
الرابعة ـ وأما أحكامه إن كان والياً فينفذ منها ما وافق الحق ويردّ ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال؛ ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر أو قول يحكى؛ فإن الكلام كثير والحق ظاهر.
الخامسة ـ لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولاً عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله، أو إذن يعلمه؛ إذا لم يخرج عن حق المرسِل والمبلِّغ؛ فإن تعلّق به حق لغيرهما لم يقبل قوله. وهذا جائز للضرورة الداعية إليه؛ فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها شيء لعدمهم في ذلك. والله أعلم.
السادسة ـ وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجُرحة؛ لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم؛ فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة.
السابعة ـ فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملاً بجهالة؛ كالقضاء بالشاهدين العدلين، وقبول قول العالم المجتهد. وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله. ذكر هذه المسألة القُشَيْرِي، والذي قبلها المَهْدَوِي.
[ تفسير الجامع لأحكام القرآن - القرطبي ]
ونزل في الوليد بن عقبة وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقا فخافهم لترة كانت بينه وبينهم في الجاهلية فرجع وقال إنهم منعوا الصدقة وهموا بقتله فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم بغزوهم فجاؤوا منكرين ما قاله عنهم. { يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } خبر { فَتَبَيَّنُواْ } صدقه من كذبه، وفي قراءة «فتثبتوا» من الثبات { أن تُصِيبُواْ قَوْماً } مفعول له أي خشية ذلك { بِجَهَالَةٍ } حال من الفاعل أي جاهلين { فَتُصْبِحُواْ } تصيروا { عَلَى مَا فَعَلْتُمْ } من الخطأ بالقوم { نَادِمِينَ } وأرسل صلى الله عليه وسلم إليهم بعد عودهم إلى بلادهم خالداً فلم ير فيهم إلا الطاعة والخير فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .
[ تفسير الجلالين ]
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له ، لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر - كاذبا أو مخطئا ، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه ، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين ، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر ، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق ، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال . وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة .
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات بني المصطلق . وقد روي ذلك من طرق ، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق ، وهو الحارث بن ضرار ، والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا عيسى بن دينار ، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي يقول : قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها ، وقلت : يا رسول الله ، أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، ويرسل إلي رسول الله رسولا لإبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة . فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليه ، احتبس عليه الرسول فلم يأته ، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله ، فدعا بسروات قومه ، فقال لهم : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت ، فانطلقوا فنأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق - أي : خاف - فرجع فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي . فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البعث إلى الحارث . وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث ، فلما [ ص: ٣٧١ ] غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك . قال : ولم ؟ قالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بعث إليك الوليد بن عقبة ، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله . قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني . فلما دخل الحارث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟ " . قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خشيت أن يكون كانت سخطة من الله ورسوله . قال : فنزلت الحجرات : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ ) إلى قوله : ( حكيم )
ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار ، عن محمد بن سابق به . ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق ، به ، غير أنه سماه الحارث بن سرار ، والصواب : الحارث بن ضرار ، كما تقدم .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا جعفر بن عون ، عن موسى بن عبيدة ، عن ثابت مولى أم سلمة ، عن أم سلمة قالت : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة ، فسمع بذلك القوم ، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قالت : فرجع إلى رسول الله فقال : إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم . فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون . قالت : فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصفوا له حين صلى الظهر ، فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله ، بعثت إلينا رجلا مصدقا ، فسررنا بذلك ، وقرت به أعيننا ، ثم إنه رجع من بعض الطريق ، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله ، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر ، قالت : ونزلت : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) .
وروى ابن جرير أيضا من طريق العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات ، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه ، رجع الوليد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة . فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك غضبا شديدا ، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا : يا رسول الله ، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله . وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استغشهم وهم بهم ، فأنزل الله عذرهم في الكتاب ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) إلى آخر الآية .
[ ص: ٣٧٢ ] وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم ، فتلقوه بالصدقة ، فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك زاد قتادة : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام - فبعث رسول الله خالد بن الوليد إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل . فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه ، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر ، فأنزل الله هذه الآية . قال قتادة : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " التبين من الله ، والعجلة من الشيطان " .
وكذا ذكر غير واحد من السلف ، منهم : ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم في هذه الآية : أنها نزلت في الوليد بن عقبة . [ تفسير ابن كثير ]
والله أعلم
السبت، 29 سبتمبر 2012
تفسير سورة الحجرات آية (٦)
ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم
مسند أحمد بن حنبل- البخاري و مسلم- السنن الأربعه عن / أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رَجُلٌ على فَضِلِ مَاء بالفَلاةِ يَمْنَعُهُ مِن ابْن السَّبيلِ وَرَجُلٌ بايَعَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّه لأخَذها بِكذا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ وَرَجُلٌ بايَعَ إِمَامًا لَا يُبايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيا فإنْ أعْطاهُ منها وفى وإن لم يعطه لَمْ يَفِ
[ صحيح _ انظر حديث رقم -٣٠٦٨- في صحيح جامع ]
الشرح :
٣٥٤٠ - (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة) كلام رضى ورحمة (ولا ينظر إليهم) نظر إنعام وإفضال (ولا يزكيهم) لا يطهرهم من دنس ذنوبهم (ولهم عذاب أليم) مؤلم على ما اجترحوه (رجل على فضل ماء) يعني له ماء فاضل عن حاجته (بالفلاة) أي في المفازة (يمنعه) أي الفاضل من الماء (من ابن السبيل) أي المسافر المضطر للماء لنفسه أو حيوان محترم معه وقوله رجل مرفوع خبر مبتدأ محذوف (و) الثاني من الثلاثة (رجل بايع رجلا) بلفظ الماضي (بسلعة) أي ساوم فيها وروي سلعة بدون باء فعليه يكون بايع بمعنى باع (بعد العصر) خص العصر لكونه وقت نزول الملائكة لرفع أعمال النهار وإذا حلف كاذبا في ذلك الوقت ختم عمل نهاره بعمل سيء فكان جديرا بالإبعاد والطرد عن رب العباد (فحلف له) أي البائع للمشتري (بالله) تعالى (لأخذها) بصيغة الماضي (بكذا وكذا فصدقه) أي المشتري البائع (وهو على غير ذلك) أي والحال أن البائع لم يشترها بما ذكره من الثمن (و) الثالث (رجل بايع إماما) أي عاقد الإمام الأعظم على أن يعمل بالحق ويقيم الحد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر والحال أنه (لا يبايعه) لا يعاقده (إلا لدنيا) بلا تنوين -[331]- كحبلى أي لغرض دنيوي (فإن) الفاء تفسيرية (أعطاه منها) أي الدنيا (وفا) بالتخفيف للفاء أي ذلك الرجل المبايع بما عاقده عليه (وإن لم يعطه) أي الإمام (منها لم يف) ببيعته لأن الإمامة نيابة عن الله ورسوله فمن عدل في متابعة ذلك النائب عن قانون الشريعة ومنهاج السنة وقصر متابعته له على ما يعطاه دون ملاحظة المبايع عليه فقد خسر خسرانا مبينا وضل ضلالا عظيما واستحق هذا الوعيد الشديد لتركه الواجب عليه من الإخلاص في البيعة. قال الخطابي: الأصل في المبايعة للإمام أن يبايع على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فمن جعل مبايعته لما يعطاه دون ملاحظة المقصود فقد دخل في الوعيد
(حم ق 4 عن أبي هريرة) .
[ صحيح _ انظر حديث رقم -٣٠٦٨- في صحيح جامع ]
الشرح :
٣٥٤٠ - (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة) كلام رضى ورحمة (ولا ينظر إليهم) نظر إنعام وإفضال (ولا يزكيهم) لا يطهرهم من دنس ذنوبهم (ولهم عذاب أليم) مؤلم على ما اجترحوه (رجل على فضل ماء) يعني له ماء فاضل عن حاجته (بالفلاة) أي في المفازة (يمنعه) أي الفاضل من الماء (من ابن السبيل) أي المسافر المضطر للماء لنفسه أو حيوان محترم معه وقوله رجل مرفوع خبر مبتدأ محذوف (و) الثاني من الثلاثة (رجل بايع رجلا) بلفظ الماضي (بسلعة) أي ساوم فيها وروي سلعة بدون باء فعليه يكون بايع بمعنى باع (بعد العصر) خص العصر لكونه وقت نزول الملائكة لرفع أعمال النهار وإذا حلف كاذبا في ذلك الوقت ختم عمل نهاره بعمل سيء فكان جديرا بالإبعاد والطرد عن رب العباد (فحلف له) أي البائع للمشتري (بالله) تعالى (لأخذها) بصيغة الماضي (بكذا وكذا فصدقه) أي المشتري البائع (وهو على غير ذلك) أي والحال أن البائع لم يشترها بما ذكره من الثمن (و) الثالث (رجل بايع إماما) أي عاقد الإمام الأعظم على أن يعمل بالحق ويقيم الحد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر والحال أنه (لا يبايعه) لا يعاقده (إلا لدنيا) بلا تنوين -[331]- كحبلى أي لغرض دنيوي (فإن) الفاء تفسيرية (أعطاه منها) أي الدنيا (وفا) بالتخفيف للفاء أي ذلك الرجل المبايع بما عاقده عليه (وإن لم يعطه) أي الإمام (منها لم يف) ببيعته لأن الإمامة نيابة عن الله ورسوله فمن عدل في متابعة ذلك النائب عن قانون الشريعة ومنهاج السنة وقصر متابعته له على ما يعطاه دون ملاحظة المبايع عليه فقد خسر خسرانا مبينا وضل ضلالا عظيما واستحق هذا الوعيد الشديد لتركه الواجب عليه من الإخلاص في البيعة. قال الخطابي: الأصل في المبايعة للإمام أن يبايع على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فمن جعل مبايعته لما يعطاه دون ملاحظة المقصود فقد دخل في الوعيد
(حم ق 4 عن أبي هريرة) .
الجمعة، 28 سبتمبر 2012
تفسير سورة الفتح آية (١١)
{ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)} [ الفتح ]
سيقول لك -أيها النبي- الذين تخلَّفوا من الأعراب عن الخروج معك إلى "مكة" إذا عاتبتهم: شغلتنا أموالنا وأهلونا, فاسأل ربك أن يغفر لنا تخلُّفنا, يقولون ذلك بألسنتهم, ولا حقيقة له في قلوبهم, قل لهم: فمن يملك لكم من الله شيئًا إن أراد بكم شرًا أو خيرًا؟ ليس الأمر كما ظن هؤلاء المنافقون أن الله لا يعلم ما انطوت عليه بواطنهم من النفاق, بل إنه سبحانه كان بما يعملون خبيرًا, لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه.
[ تفسير الميسر ]
{ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ } حول المدينة، أي الذين خلفهم الله عن صحبتك لما طلبتهم ليخرجوا معك إلى مكة خوفا من تعرّض قريش لك عام الحديبية إذا رجعت منها { شَغَلَتْنَا أَمْوالُنَا وَأَهْلُونَا } عن الخروج معك { فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا } الله من تَرْك الخروج معك قال تعالى مكذبا لهم: { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ } أي من طلب الاستغفار وما قبله و { مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } فهم كاذبون في اعتذراهم { قُلْ فَمَن } استفهام بمعنى النفي أي لا أحد { يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً } بفتح الضاد وضمها { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي لم يزل متصفاً بذلك.
[ تفسير الجلالين ]
قوله تعالى: { سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ } قال مجاهد وابن عباس: يعني أعراب غِفار ومُزَيْنة وجُهينة وأَسْلم وأشْجَع والدِّيل؛ وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة؛ تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح، بعد أن كان استنفرهم ليخرجوا معه حَذَراً من قريش، وأحرم بعُمْرَةٍ وساق معه الهَدْيَ؛ ليعلم الناس أنه لا يريد حرباً فتثاقلوا عنه واعتلّوا بالشّغل؛ فنزلت. وإنما قال: «الْمُخَلّفُونَ» لأن الله خلّفهم عن صحبة نبيّه. والمخلَّف المتروك. وقد مضى في «براءة». { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } أي ليس لنا من يقوم بهما. { فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا } جاءوا يطلبون الاْستغفار وٱعتقادُهم بخلاف ظاهرهم؛ ففضحهم الله تعالى بقوله: { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وهذا هو النفاق المحض. { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً } قرأ حمزة والكسائي «ضُرًّا» بضم الضاد هنا فقط؛ أي أمراً يضركم. وقال ٱبن عباس: الهزيمة. الباقون بالفتح؛ وهو مصدر ضررته ضَرًّا. وبالضم ٱسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدّي عن المرّة وأكثر. وٱختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأنه قابله بالنفع وهو ضدّ الضرّ. وقيل: هما لغتان بمعنًى؛ كالفَقْر والفُقْر والضَّعْف والضُّعْف. { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } أي نصراً وغَنِيمة. وهذا ردّ عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجِّل لهم النفع.
[ تفسير الجامع لأحكام القرآن - القرطبي ]
[ ص: 337 ] يقول تعالى مخبرا رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بما يعتذر به المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم ، وتركوا المسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتذروا بشغلهم بذلك ، وسألوا أن يستغفر لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد ، بل على وجه التقية والمصانعة ; ولهذا قال تعالى : ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا ) أي : لا يقدر أحد أن يرد ما أراده فيكم تعالى وتقدس ، وهو العليم بسرائركم وضمائركم ، وإن صانعتمونا وتابعتمونا ; ولهذا قال : ( بل كان الله بما تعملون خبيرا ) .
[ تفسير ابن كثير ]
السؤال: فيما يتعلق بالآية/79 من سورة البقرة
السؤال: فيما يتعلق بالآية/79 من سورة البقرة ( فويل للدين يكتبون الكتاب بأيديهم ...)، ما الذي كانوا يجنونه من تغيير وتحريف الكتب بعد نزولها ، وهل المعنى المقصود من كلمة ( بيع ) أنهم كانوا يبيعون تلك الكتب المحرفة للناس ليتكسبوا منها أرباحا من بيعها ؟
الجواب :
الحمد لله
توعد الله تعالى في هذه الآية أولئك المحرفين للكتاب ، المبدلين للشرائع ، الخائنين لأمانة العلم والدين : بالويل والعذاب والهلاك يوم القيامة ، فقد حرفوا بالزيادة والنقصان ، وقالوا هذا من عند الله كذبا وزورا ، وغرضهم بذلك التحريف أن ينالوا من حطام الدنيا الفانية، وذلك يتمثل بأمور عدة :
أولا : جاه الدنيا بالاحتفاظ بمناصب الرئاسة التي كان يتمتع بها كبراء اليهود وأحبارهم ، فقد علموا أنهم إن آمنوا وأسلموا فقد أقروا بزعامة النبي الجديد ، وفقدوا بذلك ما كانوا يتكبرون ويتعالون به على الناس ، وانصرف عنهم أتباعهم لاتباع النبي الجديد ، فحذفوا من كتبهم كل بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكتموا ما لديهم من علم في هذا الشأن ، فاشتروا الدنيا الفانية بالآخرة الباقية .
قال البغوي رحمه الله :
" وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلتهم ، وزوال رياستهم ، حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به ، فعمدوا إلى صفته في التوراة ، وكانت صفته فيها : حسن الوجه ، حسن الشعر ، أكحل العينين ، ربعة ، فغيروها وكتبوا مكانها : طوال ، أزرق ، سبط الشعر ، فإذا سألهم سفلتهم عن صفته قرءوا ما كتبوا فيجدونه مخالفا لصفته ، فيكذبونه وينكرونه ، قال الله تعالى : ( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ) يعني ما كتبوا " انتهى.
" معالم التنزيل " (1/115)
وقال القرطبي رحمه الله :
" قال ابن إسحاق والكلبي : كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم ربعة أسمر ، فجعلوه آدم سبطا طويلا ، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم : انظروا إلى صفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا ، وكانت للأحبار والعلماء رياسة ومكاسب ، فخافوا إن بينوا أن تذهب مآكلهم ورياستهم ، فمن ثم غيروا " انتهى.
" الجامع لأحكام القرآن " (2/9)
ثانيا : المال القليل مقابل صحف وكتب كتبها بعض أحبار أهل الكتاب بأيديهم لبيعها على بعض جهلة الناس فيتكسبوا من وراء ذلك ، وكان من بخلهم وخيانتهم أن غشوهم في كلام الله عز وجل ، فقالوا هذه الكتب من عند الله وما هي من عند الله .
قال قتادة رحمه الله :
" كان ناس من بني إسرائيل كتبوا كتابا بأيديهم ليتأكلوا الناس ، فقالوا : هذا من عند الله ، وما هو من عند الله " انتهى.
ويقول السدي رحمه الله :
" كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم يبيعونه من العرب ، ويحدثونهم أنه مِن عند الله ، ليأخذوا به ثمنا قليلا " انتهى.
" جامع البيان " (2/270-271)
وذكر العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله وجهين آخرين من أوجه الأطماع الدنيوية التي حملت بعض أهل الكتاب على تحريف كتبهم ، فقال رحمه الله :
" الثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة ، بأن غيروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم . أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون ، فوضعوا كتبا تافهة من القصص والمعلومات البسيطة ليتفيهقوا بها في المجامع ؛ لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح ، وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة ، لفقوا نتفا سطحية ، وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ، ثم أشاعوها ، ونسبوها إلى الله ودينه ، وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة عن غير أهلية ، ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم " انتهى.
" التحرير والتنوير " (1/577)
والله أعلم .
الرابط
http://islamqa.info/ar/ref/141772
الإسلام سؤال وجواب
الجواب :
الحمد لله
توعد الله تعالى في هذه الآية أولئك المحرفين للكتاب ، المبدلين للشرائع ، الخائنين لأمانة العلم والدين : بالويل والعذاب والهلاك يوم القيامة ، فقد حرفوا بالزيادة والنقصان ، وقالوا هذا من عند الله كذبا وزورا ، وغرضهم بذلك التحريف أن ينالوا من حطام الدنيا الفانية، وذلك يتمثل بأمور عدة :
أولا : جاه الدنيا بالاحتفاظ بمناصب الرئاسة التي كان يتمتع بها كبراء اليهود وأحبارهم ، فقد علموا أنهم إن آمنوا وأسلموا فقد أقروا بزعامة النبي الجديد ، وفقدوا بذلك ما كانوا يتكبرون ويتعالون به على الناس ، وانصرف عنهم أتباعهم لاتباع النبي الجديد ، فحذفوا من كتبهم كل بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكتموا ما لديهم من علم في هذا الشأن ، فاشتروا الدنيا الفانية بالآخرة الباقية .
قال البغوي رحمه الله :
" وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلتهم ، وزوال رياستهم ، حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به ، فعمدوا إلى صفته في التوراة ، وكانت صفته فيها : حسن الوجه ، حسن الشعر ، أكحل العينين ، ربعة ، فغيروها وكتبوا مكانها : طوال ، أزرق ، سبط الشعر ، فإذا سألهم سفلتهم عن صفته قرءوا ما كتبوا فيجدونه مخالفا لصفته ، فيكذبونه وينكرونه ، قال الله تعالى : ( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ) يعني ما كتبوا " انتهى.
" معالم التنزيل " (1/115)
وقال القرطبي رحمه الله :
" قال ابن إسحاق والكلبي : كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم ربعة أسمر ، فجعلوه آدم سبطا طويلا ، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم : انظروا إلى صفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا ، وكانت للأحبار والعلماء رياسة ومكاسب ، فخافوا إن بينوا أن تذهب مآكلهم ورياستهم ، فمن ثم غيروا " انتهى.
" الجامع لأحكام القرآن " (2/9)
ثانيا : المال القليل مقابل صحف وكتب كتبها بعض أحبار أهل الكتاب بأيديهم لبيعها على بعض جهلة الناس فيتكسبوا من وراء ذلك ، وكان من بخلهم وخيانتهم أن غشوهم في كلام الله عز وجل ، فقالوا هذه الكتب من عند الله وما هي من عند الله .
قال قتادة رحمه الله :
" كان ناس من بني إسرائيل كتبوا كتابا بأيديهم ليتأكلوا الناس ، فقالوا : هذا من عند الله ، وما هو من عند الله " انتهى.
ويقول السدي رحمه الله :
" كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم يبيعونه من العرب ، ويحدثونهم أنه مِن عند الله ، ليأخذوا به ثمنا قليلا " انتهى.
" جامع البيان " (2/270-271)
وذكر العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله وجهين آخرين من أوجه الأطماع الدنيوية التي حملت بعض أهل الكتاب على تحريف كتبهم ، فقال رحمه الله :
" الثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة ، بأن غيروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم . أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون ، فوضعوا كتبا تافهة من القصص والمعلومات البسيطة ليتفيهقوا بها في المجامع ؛ لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح ، وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة ، لفقوا نتفا سطحية ، وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ، ثم أشاعوها ، ونسبوها إلى الله ودينه ، وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة عن غير أهلية ، ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم " انتهى.
" التحرير والتنوير " (1/577)
والله أعلم .
الرابط
http://islamqa.info/ar/ref/141772
الإسلام سؤال وجواب
الخميس، 27 سبتمبر 2012
لماذا شبّه الله الدنيا بالماء فى القرآن الكريم ؟!
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)} [ سورة يونس ]
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)} [ سورة الكهف ]
لماذا شبّه الله الدنيا بالماء فى القرآن الكريم ؟!
إِخْوَتِي فِي الْلَّه ..
فِي الْآَيَات الْسَّابِقَة شَبَّه الْلَّه تَعَالَى الْدُّنْيَا بِالْمَاء : فَلِمَاذَا هَذَا التَّشْبِيْه ؟!
فَلْنَقْرَأ مُتَأَمِّلِين فِيْمَا قِيَل :
لماذا شبّه الله الدنيا بالماء
قِيَل لِأَن الْمَاء لَيْس لَه قَرَار وَكَذَلِك الْدُّنْيَا
وَقِيْل لِأَن الْمَاء إِن أَمْسَكْتَه تَغَيَّر وَنَتْن وَكَذَلِك الْدُّنْيَا لِمَن أَمْسَكَهَا بَلِيَّة
وَقِيْل لِأَن الْمَاء يَأْتِى قَطْرَة قَطْرَة وَيُذْهِب دُفْعَة وَاحِدَة وَكَذَلِك الْدُّنْيَا
وَأَيْضا الْمَاء يَسْتُر الْأَرْض وَكَذَلِك الْمَال ( وَهُو رَمْز لِلْدُّنْيَا )
يُغَطَّى عَيْب الْرَّجُل
وَأَيْضا الْمَاء طَبْعُه الْنُّقْصَان كَذَلِك الْدُّنْيَا
وَأَيْضا الْمَاء يَكُوْن فِى مَوْضِع كَثِيْر وَفِى مَوْضِع قَلِيْل كَذَلِك الْدُّنْيَا
وَأَيْضا لَا يَقْدِر أَحَد أَن يَرُد الْمَطَر كَذَلِك لَا يَقْدِر أَحَد أَن يَرُد الْرِّزْق
وَقِيْل الْمَاء قَلِيْلُه رَى لِلْعَطْشَان وَكَثِيْرِه دَاء كَذَلِك الْدُّنْيَا
وَقِيْل الزَّرْع يُفْسِد بِالْمَاء الْكَثِيْر كَذَلِك الْقَلْب يُفْسِد بِالْمَال الْكَثِيْر
وَأَيْضا الْمَاء كُلَّه لَا يَكُوْن صَافِيا كَذَلِك الْمَال فِيْه الْحَلَال وَالْحَرَام وَالْشُّبْهَة
وَأَيْضا الْمَاء يُطَهِّر الْنَّجَاسَات كَذَلِك الْمَال الْطَّيِّب الْحَلَال يُطَهِّر دَنَس الْآَثَام .
قَـــــــــال الْلَّه تَعَالَى :
{ خُذ مِن أَمْوَالِهِم صَدَقَة تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيْهِم بِهَا } [الْتَّوْبَة: مِن الْآَيَة103]
وَعَلَى الْجُمْلَة فَإِن هَذَا التَّشْبِيْه يُفِيْد أَن:
كَلَّا مِن الْمُشَبَّه وَالْمُشَبَّه بِه (الْدُّنْيَا وَالْمَاء) إِذَا نَزَل وَأَثْمَر ثَمَرَتُه
يَمْكُث مَا شَاء الْلَّه وَهُو فِى إِقْبَال وَبَرَكَة ثُم عَمَّا قَلِيْل يَضْمَحِل وَيَزُوْل وَالْعِلْم عِنْد الْلَّه تَعَالَى .
فَاجْعَل أَخِي / أُخْتِي فِي الْلَّه نَفْسِك فِي الْدُّنْيَا
كَمَا دَلَّنَا رَسُوْلُنَا الْكَرِيم عَلَيْه الْصَّلَاة وَالْسَّلَام
فِي قَـــــــــــــوْلِه :
" مَالِي وَلِلْدُّنْيَا ؟ مَا أَنَا فِي الْدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِب اسْتَظَل تَحْت شَجَرَة ، ثُم رَاح وَتَرَكَهَا ."
صَحِيْح الْأَلْبَانِي
وَلَقَد جَاء فِي الْأَثَر
مِن وَصَايَا عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام :
[ الْدُّنْيَا قِنْطَرَة فَاعْبُرُوْهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا ]
وَقَوْلُه أَيْضا :
[ مَن ذَا الَّذِي يَبْنِي فَوْق مَوْج الْبَحْر دَارا ؟!
تِلْكُم الْدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوْهَا قَرَارا ]
وَقِيْل لِنُوْح عَلَيْه الْسَّلَام :
يَا أَطْوَل الْأَنْبِيَاء عُمْرَا كَيْف رَأَيْت الْدُّنْيَا ؟ ..
قَــــــــــــــــــــال :
[ كَدَّار لَهَا بَابَان دَخَلْت مِن أَحَدِهِمَا وَخَرَجْت مِن الْآَخَر ]
فَطُوْبَى لِمَن كَان صَمْتُه فِكْرَا وَنَظَرِه عِبْرَة
جَعَلَنِي الْلَّه وَإِيَّاكُم مِنْهُم .
والله اعلم
المصدر: مواقع و منتديات
http://www.sabayacafe.com/article.php?supertype=8&type=48&id=14494
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)} [ سورة الكهف ]
لماذا شبّه الله الدنيا بالماء فى القرآن الكريم ؟!
إِخْوَتِي فِي الْلَّه ..
فِي الْآَيَات الْسَّابِقَة شَبَّه الْلَّه تَعَالَى الْدُّنْيَا بِالْمَاء : فَلِمَاذَا هَذَا التَّشْبِيْه ؟!
فَلْنَقْرَأ مُتَأَمِّلِين فِيْمَا قِيَل :
لماذا شبّه الله الدنيا بالماء
قِيَل لِأَن الْمَاء لَيْس لَه قَرَار وَكَذَلِك الْدُّنْيَا
وَقِيْل لِأَن الْمَاء إِن أَمْسَكْتَه تَغَيَّر وَنَتْن وَكَذَلِك الْدُّنْيَا لِمَن أَمْسَكَهَا بَلِيَّة
وَقِيْل لِأَن الْمَاء يَأْتِى قَطْرَة قَطْرَة وَيُذْهِب دُفْعَة وَاحِدَة وَكَذَلِك الْدُّنْيَا
وَأَيْضا الْمَاء يَسْتُر الْأَرْض وَكَذَلِك الْمَال ( وَهُو رَمْز لِلْدُّنْيَا )
يُغَطَّى عَيْب الْرَّجُل
وَأَيْضا الْمَاء طَبْعُه الْنُّقْصَان كَذَلِك الْدُّنْيَا
وَأَيْضا الْمَاء يَكُوْن فِى مَوْضِع كَثِيْر وَفِى مَوْضِع قَلِيْل كَذَلِك الْدُّنْيَا
وَأَيْضا لَا يَقْدِر أَحَد أَن يَرُد الْمَطَر كَذَلِك لَا يَقْدِر أَحَد أَن يَرُد الْرِّزْق
وَقِيْل الْمَاء قَلِيْلُه رَى لِلْعَطْشَان وَكَثِيْرِه دَاء كَذَلِك الْدُّنْيَا
وَقِيْل الزَّرْع يُفْسِد بِالْمَاء الْكَثِيْر كَذَلِك الْقَلْب يُفْسِد بِالْمَال الْكَثِيْر
وَأَيْضا الْمَاء كُلَّه لَا يَكُوْن صَافِيا كَذَلِك الْمَال فِيْه الْحَلَال وَالْحَرَام وَالْشُّبْهَة
وَأَيْضا الْمَاء يُطَهِّر الْنَّجَاسَات كَذَلِك الْمَال الْطَّيِّب الْحَلَال يُطَهِّر دَنَس الْآَثَام .
قَـــــــــال الْلَّه تَعَالَى :
{ خُذ مِن أَمْوَالِهِم صَدَقَة تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيْهِم بِهَا } [الْتَّوْبَة: مِن الْآَيَة103]
وَعَلَى الْجُمْلَة فَإِن هَذَا التَّشْبِيْه يُفِيْد أَن:
كَلَّا مِن الْمُشَبَّه وَالْمُشَبَّه بِه (الْدُّنْيَا وَالْمَاء) إِذَا نَزَل وَأَثْمَر ثَمَرَتُه
يَمْكُث مَا شَاء الْلَّه وَهُو فِى إِقْبَال وَبَرَكَة ثُم عَمَّا قَلِيْل يَضْمَحِل وَيَزُوْل وَالْعِلْم عِنْد الْلَّه تَعَالَى .
فَاجْعَل أَخِي / أُخْتِي فِي الْلَّه نَفْسِك فِي الْدُّنْيَا
كَمَا دَلَّنَا رَسُوْلُنَا الْكَرِيم عَلَيْه الْصَّلَاة وَالْسَّلَام
فِي قَـــــــــــــوْلِه :
" مَالِي وَلِلْدُّنْيَا ؟ مَا أَنَا فِي الْدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِب اسْتَظَل تَحْت شَجَرَة ، ثُم رَاح وَتَرَكَهَا ."
صَحِيْح الْأَلْبَانِي
وَلَقَد جَاء فِي الْأَثَر
مِن وَصَايَا عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام :
[ الْدُّنْيَا قِنْطَرَة فَاعْبُرُوْهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا ]
وَقَوْلُه أَيْضا :
[ مَن ذَا الَّذِي يَبْنِي فَوْق مَوْج الْبَحْر دَارا ؟!
تِلْكُم الْدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوْهَا قَرَارا ]
وَقِيْل لِنُوْح عَلَيْه الْسَّلَام :
يَا أَطْوَل الْأَنْبِيَاء عُمْرَا كَيْف رَأَيْت الْدُّنْيَا ؟ ..
قَــــــــــــــــــــال :
[ كَدَّار لَهَا بَابَان دَخَلْت مِن أَحَدِهِمَا وَخَرَجْت مِن الْآَخَر ]
فَطُوْبَى لِمَن كَان صَمْتُه فِكْرَا وَنَظَرِه عِبْرَة
جَعَلَنِي الْلَّه وَإِيَّاكُم مِنْهُم .
والله اعلم
المصدر: مواقع و منتديات
http://www.sabayacafe.com/article.php?supertype=8&type=48&id=14494
الاثنين، 24 سبتمبر 2012
تدبر الآيتين [يونس ٢٤ - الكهف ٤٥]
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)} [ سورة يونس ]
إنما مثل الحياة الدنيا وما تتفاخرون به فيها من زينة وأموال, كمثل مطر أنزلناه من السماء إلى الأرض, فنبتت به أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض مما يقتات به الناس من الثمار, وما تأكله الحيوانات من النبات, حتى إذا ظهر حُسْنُ هذه الأرض وبهاؤها, وظن أهل هذه الأرض أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها, جاءها أمرنا وقضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات, والزينة إما ليلا وإما نهارًا, فجعلنا هذه النباتات والأشجار محصودة مقطوعة لا شيء فيها, كأن لم تكن تلك الزروع والنباتات قائمة قبل ذلك على وجه الأرض, فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهَون به من دنياكم وزخارفها فيفنيها الله ويهلكها. وكما بيَّنا لكم -أيها الناس- مَثَلَ هذه الدنيا وعرَّفناكم بحقيقتها, نبيِّن حججنا وأدلتنا لقوم يتفكرون في آيات الله, ويتدبرون ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.
[ تفسير الميسر ]
{ إِنَّمَا مَثَلُ } صفة { ٱلْحَيَواةِ ٱلْدُّنْيَا كَمَاءٍ } مطرٍ { أَنزَلْنـَاهُ مِنَ ٱلسَّمآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ } بسببه { نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } واشتبك بعضه ببعض { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ } من البُرِّ والشعير وغيرهما { وَٱلأَنْعَامُ } من الكلأ { حَتَّى إِذآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا } بهجتها من النبات { وَٱزَّيَّنَتْ } بالزهر، وأصله: (تزينت)، أُبدلت التاء زاياً وأدغمت في الزاي { وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } متمكنون من تحصيل ثمارها { أَتـَاهَا أَمْرُنَا } قضاؤنا أو عذابنا { لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا } أي زرعها { حَصِيداً } كالمحصود بالمناجل { كَأَنَ } مخففة أي كأنها { لَّمْ تَغْنَ } تكن { بِٱلأَمْسِ كَذالِكَ نُفَصِّلُ } نبيِّن { ٱلأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }. تفسير الجلالين
قوله تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } معنى الآية التشبيه والتمثيل، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي مثل ماء، فالكاف في موضع رفع. وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في «الكهف» إن شاء الله تعالى. «أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ» نعت لـ «ماء». { فَٱخْتَلَطَ } روي عن نافع أنه وقف على «فَٱخْتَلَطَ» أي فاختلط الماء بالأرض، ثم ابتدأ «بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ» أي بالماء نبات الأرض؛ فأخرجت ألواناً من النبات، فنبات على هذا ابتداء، وعلى مذهب من لم يقف على «فَاخْتَلَطَ» مرفوع باختلط؛ أي ٱختلط النبات بالمطر، أي شرب منه فتندّى وحَسُن وٱخضرّ. والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض.
قوله تعالى: { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ } من الحبوب والثمار والبقول. { وَٱلأَنْعَامُ } من الكلإ والتبن والشعير. { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا } أي حسنها وزينتها. والزخرف كمال حسن الشيء؛ ومنه قيل للذهب: زخرف. { وَٱزَّيَّنَتْ } أي بالحبوب والثمار والأزهار؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأوّل منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ٱبن مسعود وأُبيّ بن كعب «وتزينت» على الأصل. وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية «وأَزْيَنَت» أي أتت بالزينة عليها، أي الغَلّة والزرع؛ وجاء بالفعل على أصله ولو أعلّه لقال وٱزّانت. وقال عوف بن أبي جميلة الأعرابي: قرأ أشياخنا «وٱزْيانّت» وزنه ٱسوادّت. وفي رواية المُقَدّمي «وٱزّاينت» والأصل فيه تزاينت، وزنه تقاعست ثم أدغم. وقرأ الشعبيّ وقتادة «وأزْينت» مثل أفعلت. وقرأ أبو عثمان النَّهدِيّ «وٱزْيَنَتْ» مثل ٱفعلت، وعنه أيضاً «وٱزيانت» مثل ٱفعالت، وروي عنه «ٱزيأنت» بالهمزة؛ ثلاث قراءات.
قوله تعالى: { وَظَنَّ أَهْلُهَآ } أي أيقن. { أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } أي على حصادها والانتفاع بها؛ أخبر عن الأرض والمعنِيّ النبات إذا كان مفهوماً وهو منها. وقيل: ردّ إلى الغلة، وقيل: إلى الزينة. { أَتَاهَآ أَمْرُنَا } أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها. { لَيْلاً أَوْ نَهَاراً } ظرفان. { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } مفعولان، أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها. وقال «حَصيداً» ولم يؤنّث لأنه فعيل بمعنى مفعول. قال أبو عبيد: الحصيد المستأصَل. { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } أي لم تكن عامرة؛ من غَنِي إذا أقام فيهِ وعمرَه. والمغاني في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس. وقال قتادة: كأن لم تنعم. قال لبِيد:
وغَنِيتُ سَبْتاً قبل مَجْرَى داحسٍ لو كان للنفس اللَّجُوج خلودُ
وقراءة العامة «تَغْنَ» بالتاء لتأنيث الأرض. وقرأ قتادة «يغن» بالياء، يذهب به إلى الزخرف؛ يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا. { نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } أي نبيّنُها. { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في آيات الله.
تفسير الجامع لأحكام القرآن القرطبي
مسألة: الجزء الرابع التحليل الموضوعي
( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ( ٢٤ ) والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( ٢٥ ) ) [ ص: ٢٦٠ ]
ضرب [ تبارك و ] تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها ، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل من السماء من الماء ، مما يأكل الناس من زرع وثمار ، على اختلاف أنواعها وأصنافها ، وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك ، ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) أي : زينتها الفانية ، ( وازينت ) أي : حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان ، ( وظن أهلها ) الذين زرعوها وغرسوها ( أنهم قادرون عليها ) أي : على جذاذها وحصادها فبينا هم كذلك إذ جاءتها صاعقة ، أو ريح باردة ، فأيبست أوراقها ، وأتلفت ثمارها ؛ ولهذا قال تعالى : ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا ) أي : يبسا بعد [ تلك ] الخضرة والنضارة ، ( كأن لم تغن بالأمس ) أي : كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك .
وقال قتادة : ( كأن لم تغن ) كأن لم تنعم .
وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن ؛ ولهذا جاء في الحديث يؤتى بأنعم أهل الدنيا ، فيغمس في النار غمسة ثم يقال له : هل رأيت خيرا قط ؟ [ هل مر بك نعيم قط ؟ ] فيقول : لا . ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول : لا "
وقال تعالى إخبارا عن المهلكين : ( فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ) [ هود : ٩٤ ، ٩٥ ] .
ثم قال تعالى : ( كذلك نفصل الآيات ) أي : نبين الحجج والأدلة ، ( لقوم يتفكرون ) فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعا مع اغترارهم بها ، وتمكنهم بمواعيدها وتفلتها منهم ، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها ، والطلب لمن هرب منها ، وقد ضرب الله مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض ، في غير ما آية من كتابه العزيز ، فقال في سورة الكهف : ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ) [ الكهف : ٤٥ ] ، وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب بذلك مثل الحياة الدنيا كماء .
وقال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : سمعت مروان - يعني : ابن [ ص: ٢٦١ ] الحكم - يقرأ على المنبر : " وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها " ، قال : قد قرأتها وليست في المصحف فقال عباس بن عبد الله بن عباس : هكذا يقرؤها ابن عباس . فأرسلوا إلى ابن عباس فقال : هكذا أقرأني أبي بن كعب .
وهذه قراءة غريبة ، وكأنها زيادة للتفسير .
وقوله : ( والله يدعو إلى دار السلام ) الآية : لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة [ عطبها و ] زوالها ، رغب في الجنة ودعا إليها ، وسماها دار السلام أي : من الآفات ، والنقائص والنكبات ، فقال : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .
قال أيوب عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قيل لي : لتنم عينك ، وليعقل قلبك ، ولتسمع أذنك فنامت عيني ، وعقل قلبي ، وسمعت أذني . ثم قيل : سيد بنى دارا ، ثم صنع مأدبة ، وأرسل داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة ، ولم يرض عنه السيد فالله السيد ، والدار الإسلام ، والمأدبة الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا حديث مرسل ، وقد جاء متصلا من حديث الليث ، عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : " إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا . فقال : اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ، ثم بنى فيها بيتا ، ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من تركه ، فالله الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد الرسول ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها " رواه ابن جرير .
وقال قتادة : حدثني خليد العصري ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس ، [ ص: ٢٦٢ ] هلموا إلى ربكم ، إن ما قل وكفى ، خير مما كثر وألهى " . قال : وأنزل ذلك في القرآن ، في قوله : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير . [ تفسير ابن كثير ]
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)} [ سورة الكهف ]
واضرب أيها الرسول للناس - وبخاصة ذوو الكِبْر منهم - صفة الدنيا التي اغترُّوا بها في بهجتها وسرعة زوالها، فهي كماء أنزله الله من السماء فخرج به النبات بإذنه، وصار مُخْضرًّا، وما هي إلا مدة يسيرة حتى صار هذا النبات يابسًا متكسرًا تنسفه الرياح إلى كل جهة. وكان الله على كل شيء مقتدرًا، أي: ذا قدرة عظيمة على كل شيء.
[ تفسير الميسر ]
{ وَٱضْرِبْ } صيِّر { لَهُمْ } لقومك { مَّثَلُ ٱلْحَيَواةِ ٱلدُّنْيَا } مفعول أول { كَمَآءٍ } مفعول ثان { أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ } تكاثف بسبب نزول الماء { نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } أو امتزج الماء بالنبات فَرَوِيَ وحَسُنَ { فَأَصْبَحَ } صار النبات { هَشِيمًا } يابساً متفرّقة أجزاؤه { تَذْرُوهُ } تنثره وتفرّقه { ٱلرّيَاحُ } فتذهب به، المعنى: شبَّه الدنيا بنبات حسن فيبس فتكسر ففرّقته الرياح، وفي قراءة «الريح» { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا } قادراً.
[ تفسير الجلالين ]
قوله تعالى: { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين مَثلَ الحياة الدنيا، أي شبهها. { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ } أي بالماء. { نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } حتى استوى. وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدّم هذا المعنى في «يونس» مبيَّناً. وقالت الحكماء: إنما شبّه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتلّ كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدرٍ كان نافعاً مُنْبِتًا، وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً، وكذلك الدنيا الكفافُ منها ينفع وفضولها يضرّ. وفي حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: قال له رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أكون من الفائزين؛ قال:
" ذَرِ الدنيا وخُذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يُطغي ".
وفي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:
" قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه ".
{ فَأَصْبَحَ } أي النبات { هَشِيماً } أي متكسّراً من اليُبس متفتِّتاً، يعني بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازاً لدلالة الكلام عليه. والهَشْم: كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم: ما فلانٌ إلا هشِيمةُ كَرْمٍ؛ إذا كان سَمْحا. ورجل هَشِيم: ضعيف البدن. وتهشّم عليه فلان إذا تعطّف. واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال: هَشَمَ الثَّرِيد؛ ومنه سُمِّيَ هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفيه يقول عبد الله بن الزِّبعْرَى:
عَمْرُو العُلاَ هَشَم الثريدَ لقومه ورجالُ مكّةَ مُسْنِتُون عجِافُ
وكان سبب ذلك أن قريشاً أصابتهم سِنونَ ذهبْن بالأموال فخرج هاشم إلى الشأم فأمر بخبز كثير فخبز له، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثَردَه، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطُّهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة؛ فكان ذلك أول الحِباء بعد السنة التي أصابتهم؛ فسمِّيَ بذلك هاشماً. { تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ } أي تفرقه؛ قاله أبو عبيدة. ٱبن قتيبة: تنسفه. ابن كَيْسان: تذهب به وتجيء. ابن عباس: تديره؛ والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مُصَرِّف «تذريه الريح». قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله «تُذريه». يقال: ذَرَتْه الريح تَذْرُوه ذَرْوًا و (تَذرِيه) ذَرْيا وأذرته تُذْريه إذْراء إذا طارت به. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء:
فقلت له صَوِّبْ ولا تَجهدَنَّهُ فُيُذْرِك من أُخْرَى القَطاةِ فَتَزْلَقِ
قوله تعالى: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } من الإنشاء والإفناء والإحياء، سبحانه!
[ تفسير الجامع لأحكام القرآن القرطبي ]
مسألة: الجزء الخامس التحليل الموضوعي
( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ( ٤٥ ) المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ( ٤٦ ) ) .
[ ص: ١٦١ ]
يقول تعالى : ( واضرب ) يا محمد للناس ( مثل الحياة الدنيا ) في زوالها وفنائها وانقضائها ( كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) أي : ما فيها من الحب ، فشب وحسن ، وعلاه الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله ( فأصبح هشيما ) يابسا ( تذروه الرياح ) أي : تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال ( وكان الله على كل شيء مقتدرا ) أي : هو قادر على هذه الحال ، وهذه الحال ، وكثيرا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة " يونس " : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت ) الآية [ يونس : ٢٤ ] ، وقال في سورة " الزمر " : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) [ الزمر : ٢١ ] ، وقال في سورة " الحديد " : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) [ الحديد : ٢٠ ] .
وفي الحديث الصحيح : " الدنيا حلوة خضرة " وقوله : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) كقوله ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) [ آل عمران : ١٤ ] ، وقال تعالى : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ) [ التغابن : ١٥ ] أي : الإقبال عليه والتفرغ لعبادته ، خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم ، والشفقة المفرطة عليهم ؛ ولهذا قال : ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف : " الباقيات الصالحات " الصلوات الخمس .
وقال عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " الباقيات الصالحات " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن : " الباقيات الصالحات " ما هي ؟ فقال : هي لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا حيوة ، أنبأنا أبو عقيل ، أنه سمع الحارث مولى عثمان - رضي الله عنه - يقول : جلس عثمان يوما وجلسنا معه ، فجاءه المؤذن ، فدعا بماء في إناء ، أظنه أنه سيكون فيه مد ، فتوضأ ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ، ثم قال : " من توضأ وضوئي هذا ، ثم قام فصلى صلاة الظهر ، غفر له ما كان بينها وبين الصبح ، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر ، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر ، ثم صلى العشاء غفر له ما [ ص: ١٦٢ ] بينها وبين المغرب ، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح ، غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهي الحسنات يذهبن السيئات " قالوا : هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان ؟ قال : هي لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله تفرد به .
وروى مالك ، عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال : " الباقيات الصالحات " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقال محمد بن عجلان ، عن عمارة قال : سألني سعيد بن المسيب عن " الباقيات الصالحات " فقلت : الصلاة والصيام . قال : لم تصب . فقلت : الزكاة والحج . فقال : لم تصب ، ولكنهن الكلمات الخمس : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن نافع عن سرجس ، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن : ( والباقيات الصالحات ) قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، [ وسبحان الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . قال ابن جريج : وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك .
وقال مجاهد : ( والباقيات الصالحات ) سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ] .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الحسن وقتادة في قوله : " الباقيات الصالحات " قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، وسبحان الله ، هن الباقيات الصالحات .
قال ابن جرير : وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار ، عن أبي نصر التمار ، عن عبد العزيز بن مسلم ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، من الباقيات الصالحات " .
قال : وحدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن ابن الهيثم ، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " استكثروا من الباقيات الصالحات " . قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " الملة " . قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " التكبير ، والتهليل ، والتسبيح ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله " .
وهكذا رواه أحمد ، من حديث دراج ، به .
وبه قال ابن وهب : أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن ، مولى سالم بن عبد الله [ ص: ١٦٣ ] حدثه قال : أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي ، فقال : قل له : القني عند زاوية القبر فإن لي إليك حاجة . قال : فالتقيا ، فسلم أحدهما على الآخر ، ثم قال سالم : ما تعد الباقيات الصالحات ؟ فقال : لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال له سالم : متى جعلت فيها " لا حول ولا قوة إلا بالله ؟ " فقال : ما زلت أجعلها . قال : فراجعه مرتين أو ثلاثا ، فلم ينزع ، قال فأبيت قال سالم : أجل فأبيت فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يقول : " عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام ، فقال : يا جبريل من هذا معك ؟ فقال : محمد فرحب بي وسهل ، ثم قال : مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة ، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة . فقلت : وما غراس الجنة ؟ قال : لا حول ولا قوة إلا بالله "
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن يزيد ، عن العوام ، حدثني رجل من الأنصار ، من آل النعمان بن بشير ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء ، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض ، حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء ، ثم قال : " أما إنه سيكون بعدي أمراء ، يكذبون ويظلمون ، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم ، فليس مني ولا أنا منه ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم فهو مني وأنا منه . ألا وإن " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر هن الباقيات الصالحات "
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى بن كثير ، عن زيد ، عن أبي سلام [ عن ] مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ] قال : " بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده " . وقال : " بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنا بهن ، دخل الجنة : يؤمن بالله ، واليوم الآخر ، وبالجنة وبالنار ، وبالبعث بعد الموت ، وبالحساب
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال : كان شداد بن أوس رضي الله عنه ، [ في سفر ] فنزل منزلا فقال لغلامه : " ائتنا بالشفرة نعبث بها " . فأنكرت عليه ، فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه . فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، وأسألك من خير [ ص: ١٦٤ ] ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب "
ثم رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد ، بنحوه
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثني أبي ، حدثنا عمر بن الحسين ، عن يونس بن نفيع الجدلي ، عن سعد بن جنادة - رضي الله عنه - قال : كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف ، فخرجت من أهلي من السراة غدوة ، فأتيت منى عند العصر ، فتصاعدت في الجبل ثم هبطت ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، وعلمني : ( قل هو الله أحد ) و ( إذا زلزلت ) وعلمني هؤلاء الكلمات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وقال : " هن الباقيات الصالحات " . وبهذا الإسناد : " من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه ، ثم قال : سبحان الله مائة مرة ، والحمد لله مائة مرة ، والله أكبر مائة مرة ، ولا إله إلا الله مائة مرة ، غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل "
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( والباقيات الصالحات ) قال : هي ذكر الله ، قول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، وتبارك الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأستغفر الله ، وصلى الله على رسول الله ، والصيام ، والصلاة ، والحج ، والصدقة ، والعتق ، والجهاد ، والصلة ، وجميع أعمال الحسنات . وهن الباقيات الصالحات ، التي تبقى لأهلها في الجنة ، ما دامت السموات والأرض .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هن الكلام الطيب .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي الأعمال الصالحة كلها . واختاره ابن جرير ، رحمه الله .
[ تفسير ابن كثير ]
إنما مثل الحياة الدنيا وما تتفاخرون به فيها من زينة وأموال, كمثل مطر أنزلناه من السماء إلى الأرض, فنبتت به أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض مما يقتات به الناس من الثمار, وما تأكله الحيوانات من النبات, حتى إذا ظهر حُسْنُ هذه الأرض وبهاؤها, وظن أهل هذه الأرض أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها, جاءها أمرنا وقضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات, والزينة إما ليلا وإما نهارًا, فجعلنا هذه النباتات والأشجار محصودة مقطوعة لا شيء فيها, كأن لم تكن تلك الزروع والنباتات قائمة قبل ذلك على وجه الأرض, فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهَون به من دنياكم وزخارفها فيفنيها الله ويهلكها. وكما بيَّنا لكم -أيها الناس- مَثَلَ هذه الدنيا وعرَّفناكم بحقيقتها, نبيِّن حججنا وأدلتنا لقوم يتفكرون في آيات الله, ويتدبرون ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.
[ تفسير الميسر ]
{ إِنَّمَا مَثَلُ } صفة { ٱلْحَيَواةِ ٱلْدُّنْيَا كَمَاءٍ } مطرٍ { أَنزَلْنـَاهُ مِنَ ٱلسَّمآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ } بسببه { نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } واشتبك بعضه ببعض { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ } من البُرِّ والشعير وغيرهما { وَٱلأَنْعَامُ } من الكلأ { حَتَّى إِذآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا } بهجتها من النبات { وَٱزَّيَّنَتْ } بالزهر، وأصله: (تزينت)، أُبدلت التاء زاياً وأدغمت في الزاي { وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } متمكنون من تحصيل ثمارها { أَتـَاهَا أَمْرُنَا } قضاؤنا أو عذابنا { لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا } أي زرعها { حَصِيداً } كالمحصود بالمناجل { كَأَنَ } مخففة أي كأنها { لَّمْ تَغْنَ } تكن { بِٱلأَمْسِ كَذالِكَ نُفَصِّلُ } نبيِّن { ٱلأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }. تفسير الجلالين
قوله تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } معنى الآية التشبيه والتمثيل، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي مثل ماء، فالكاف في موضع رفع. وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في «الكهف» إن شاء الله تعالى. «أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ» نعت لـ «ماء». { فَٱخْتَلَطَ } روي عن نافع أنه وقف على «فَٱخْتَلَطَ» أي فاختلط الماء بالأرض، ثم ابتدأ «بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ» أي بالماء نبات الأرض؛ فأخرجت ألواناً من النبات، فنبات على هذا ابتداء، وعلى مذهب من لم يقف على «فَاخْتَلَطَ» مرفوع باختلط؛ أي ٱختلط النبات بالمطر، أي شرب منه فتندّى وحَسُن وٱخضرّ. والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض.
قوله تعالى: { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ } من الحبوب والثمار والبقول. { وَٱلأَنْعَامُ } من الكلإ والتبن والشعير. { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا } أي حسنها وزينتها. والزخرف كمال حسن الشيء؛ ومنه قيل للذهب: زخرف. { وَٱزَّيَّنَتْ } أي بالحبوب والثمار والأزهار؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأوّل منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ٱبن مسعود وأُبيّ بن كعب «وتزينت» على الأصل. وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية «وأَزْيَنَت» أي أتت بالزينة عليها، أي الغَلّة والزرع؛ وجاء بالفعل على أصله ولو أعلّه لقال وٱزّانت. وقال عوف بن أبي جميلة الأعرابي: قرأ أشياخنا «وٱزْيانّت» وزنه ٱسوادّت. وفي رواية المُقَدّمي «وٱزّاينت» والأصل فيه تزاينت، وزنه تقاعست ثم أدغم. وقرأ الشعبيّ وقتادة «وأزْينت» مثل أفعلت. وقرأ أبو عثمان النَّهدِيّ «وٱزْيَنَتْ» مثل ٱفعلت، وعنه أيضاً «وٱزيانت» مثل ٱفعالت، وروي عنه «ٱزيأنت» بالهمزة؛ ثلاث قراءات.
قوله تعالى: { وَظَنَّ أَهْلُهَآ } أي أيقن. { أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } أي على حصادها والانتفاع بها؛ أخبر عن الأرض والمعنِيّ النبات إذا كان مفهوماً وهو منها. وقيل: ردّ إلى الغلة، وقيل: إلى الزينة. { أَتَاهَآ أَمْرُنَا } أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها. { لَيْلاً أَوْ نَهَاراً } ظرفان. { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } مفعولان، أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها. وقال «حَصيداً» ولم يؤنّث لأنه فعيل بمعنى مفعول. قال أبو عبيد: الحصيد المستأصَل. { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } أي لم تكن عامرة؛ من غَنِي إذا أقام فيهِ وعمرَه. والمغاني في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس. وقال قتادة: كأن لم تنعم. قال لبِيد:
وغَنِيتُ سَبْتاً قبل مَجْرَى داحسٍ لو كان للنفس اللَّجُوج خلودُ
وقراءة العامة «تَغْنَ» بالتاء لتأنيث الأرض. وقرأ قتادة «يغن» بالياء، يذهب به إلى الزخرف؛ يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا. { نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } أي نبيّنُها. { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في آيات الله.
تفسير الجامع لأحكام القرآن القرطبي
مسألة: الجزء الرابع التحليل الموضوعي
( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ( ٢٤ ) والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( ٢٥ ) ) [ ص: ٢٦٠ ]
ضرب [ تبارك و ] تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها ، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل من السماء من الماء ، مما يأكل الناس من زرع وثمار ، على اختلاف أنواعها وأصنافها ، وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك ، ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) أي : زينتها الفانية ، ( وازينت ) أي : حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان ، ( وظن أهلها ) الذين زرعوها وغرسوها ( أنهم قادرون عليها ) أي : على جذاذها وحصادها فبينا هم كذلك إذ جاءتها صاعقة ، أو ريح باردة ، فأيبست أوراقها ، وأتلفت ثمارها ؛ ولهذا قال تعالى : ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا ) أي : يبسا بعد [ تلك ] الخضرة والنضارة ، ( كأن لم تغن بالأمس ) أي : كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك .
وقال قتادة : ( كأن لم تغن ) كأن لم تنعم .
وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن ؛ ولهذا جاء في الحديث يؤتى بأنعم أهل الدنيا ، فيغمس في النار غمسة ثم يقال له : هل رأيت خيرا قط ؟ [ هل مر بك نعيم قط ؟ ] فيقول : لا . ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول : لا "
وقال تعالى إخبارا عن المهلكين : ( فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ) [ هود : ٩٤ ، ٩٥ ] .
ثم قال تعالى : ( كذلك نفصل الآيات ) أي : نبين الحجج والأدلة ، ( لقوم يتفكرون ) فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعا مع اغترارهم بها ، وتمكنهم بمواعيدها وتفلتها منهم ، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها ، والطلب لمن هرب منها ، وقد ضرب الله مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض ، في غير ما آية من كتابه العزيز ، فقال في سورة الكهف : ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ) [ الكهف : ٤٥ ] ، وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب بذلك مثل الحياة الدنيا كماء .
وقال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : سمعت مروان - يعني : ابن [ ص: ٢٦١ ] الحكم - يقرأ على المنبر : " وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها " ، قال : قد قرأتها وليست في المصحف فقال عباس بن عبد الله بن عباس : هكذا يقرؤها ابن عباس . فأرسلوا إلى ابن عباس فقال : هكذا أقرأني أبي بن كعب .
وهذه قراءة غريبة ، وكأنها زيادة للتفسير .
وقوله : ( والله يدعو إلى دار السلام ) الآية : لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة [ عطبها و ] زوالها ، رغب في الجنة ودعا إليها ، وسماها دار السلام أي : من الآفات ، والنقائص والنكبات ، فقال : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .
قال أيوب عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قيل لي : لتنم عينك ، وليعقل قلبك ، ولتسمع أذنك فنامت عيني ، وعقل قلبي ، وسمعت أذني . ثم قيل : سيد بنى دارا ، ثم صنع مأدبة ، وأرسل داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة ، ولم يرض عنه السيد فالله السيد ، والدار الإسلام ، والمأدبة الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا حديث مرسل ، وقد جاء متصلا من حديث الليث ، عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : " إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا . فقال : اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ، ثم بنى فيها بيتا ، ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من تركه ، فالله الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد الرسول ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها " رواه ابن جرير .
وقال قتادة : حدثني خليد العصري ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس ، [ ص: ٢٦٢ ] هلموا إلى ربكم ، إن ما قل وكفى ، خير مما كثر وألهى " . قال : وأنزل ذلك في القرآن ، في قوله : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير . [ تفسير ابن كثير ]
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)} [ سورة الكهف ]
واضرب أيها الرسول للناس - وبخاصة ذوو الكِبْر منهم - صفة الدنيا التي اغترُّوا بها في بهجتها وسرعة زوالها، فهي كماء أنزله الله من السماء فخرج به النبات بإذنه، وصار مُخْضرًّا، وما هي إلا مدة يسيرة حتى صار هذا النبات يابسًا متكسرًا تنسفه الرياح إلى كل جهة. وكان الله على كل شيء مقتدرًا، أي: ذا قدرة عظيمة على كل شيء.
[ تفسير الميسر ]
{ وَٱضْرِبْ } صيِّر { لَهُمْ } لقومك { مَّثَلُ ٱلْحَيَواةِ ٱلدُّنْيَا } مفعول أول { كَمَآءٍ } مفعول ثان { أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ } تكاثف بسبب نزول الماء { نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } أو امتزج الماء بالنبات فَرَوِيَ وحَسُنَ { فَأَصْبَحَ } صار النبات { هَشِيمًا } يابساً متفرّقة أجزاؤه { تَذْرُوهُ } تنثره وتفرّقه { ٱلرّيَاحُ } فتذهب به، المعنى: شبَّه الدنيا بنبات حسن فيبس فتكسر ففرّقته الرياح، وفي قراءة «الريح» { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا } قادراً.
[ تفسير الجلالين ]
قوله تعالى: { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين مَثلَ الحياة الدنيا، أي شبهها. { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ } أي بالماء. { نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } حتى استوى. وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدّم هذا المعنى في «يونس» مبيَّناً. وقالت الحكماء: إنما شبّه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتلّ كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدرٍ كان نافعاً مُنْبِتًا، وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً، وكذلك الدنيا الكفافُ منها ينفع وفضولها يضرّ. وفي حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: قال له رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أكون من الفائزين؛ قال:
" ذَرِ الدنيا وخُذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يُطغي ".
وفي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:
" قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه ".
{ فَأَصْبَحَ } أي النبات { هَشِيماً } أي متكسّراً من اليُبس متفتِّتاً، يعني بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازاً لدلالة الكلام عليه. والهَشْم: كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم: ما فلانٌ إلا هشِيمةُ كَرْمٍ؛ إذا كان سَمْحا. ورجل هَشِيم: ضعيف البدن. وتهشّم عليه فلان إذا تعطّف. واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال: هَشَمَ الثَّرِيد؛ ومنه سُمِّيَ هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفيه يقول عبد الله بن الزِّبعْرَى:
عَمْرُو العُلاَ هَشَم الثريدَ لقومه ورجالُ مكّةَ مُسْنِتُون عجِافُ
وكان سبب ذلك أن قريشاً أصابتهم سِنونَ ذهبْن بالأموال فخرج هاشم إلى الشأم فأمر بخبز كثير فخبز له، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثَردَه، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطُّهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة؛ فكان ذلك أول الحِباء بعد السنة التي أصابتهم؛ فسمِّيَ بذلك هاشماً. { تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ } أي تفرقه؛ قاله أبو عبيدة. ٱبن قتيبة: تنسفه. ابن كَيْسان: تذهب به وتجيء. ابن عباس: تديره؛ والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مُصَرِّف «تذريه الريح». قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله «تُذريه». يقال: ذَرَتْه الريح تَذْرُوه ذَرْوًا و (تَذرِيه) ذَرْيا وأذرته تُذْريه إذْراء إذا طارت به. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء:
فقلت له صَوِّبْ ولا تَجهدَنَّهُ فُيُذْرِك من أُخْرَى القَطاةِ فَتَزْلَقِ
قوله تعالى: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } من الإنشاء والإفناء والإحياء، سبحانه!
[ تفسير الجامع لأحكام القرآن القرطبي ]
مسألة: الجزء الخامس التحليل الموضوعي
( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ( ٤٥ ) المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ( ٤٦ ) ) .
[ ص: ١٦١ ]
يقول تعالى : ( واضرب ) يا محمد للناس ( مثل الحياة الدنيا ) في زوالها وفنائها وانقضائها ( كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) أي : ما فيها من الحب ، فشب وحسن ، وعلاه الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله ( فأصبح هشيما ) يابسا ( تذروه الرياح ) أي : تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال ( وكان الله على كل شيء مقتدرا ) أي : هو قادر على هذه الحال ، وهذه الحال ، وكثيرا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة " يونس " : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت ) الآية [ يونس : ٢٤ ] ، وقال في سورة " الزمر " : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) [ الزمر : ٢١ ] ، وقال في سورة " الحديد " : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) [ الحديد : ٢٠ ] .
وفي الحديث الصحيح : " الدنيا حلوة خضرة " وقوله : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) كقوله ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) [ آل عمران : ١٤ ] ، وقال تعالى : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ) [ التغابن : ١٥ ] أي : الإقبال عليه والتفرغ لعبادته ، خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم ، والشفقة المفرطة عليهم ؛ ولهذا قال : ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف : " الباقيات الصالحات " الصلوات الخمس .
وقال عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " الباقيات الصالحات " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن : " الباقيات الصالحات " ما هي ؟ فقال : هي لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا حيوة ، أنبأنا أبو عقيل ، أنه سمع الحارث مولى عثمان - رضي الله عنه - يقول : جلس عثمان يوما وجلسنا معه ، فجاءه المؤذن ، فدعا بماء في إناء ، أظنه أنه سيكون فيه مد ، فتوضأ ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ، ثم قال : " من توضأ وضوئي هذا ، ثم قام فصلى صلاة الظهر ، غفر له ما كان بينها وبين الصبح ، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر ، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر ، ثم صلى العشاء غفر له ما [ ص: ١٦٢ ] بينها وبين المغرب ، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح ، غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهي الحسنات يذهبن السيئات " قالوا : هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان ؟ قال : هي لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله تفرد به .
وروى مالك ، عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال : " الباقيات الصالحات " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقال محمد بن عجلان ، عن عمارة قال : سألني سعيد بن المسيب عن " الباقيات الصالحات " فقلت : الصلاة والصيام . قال : لم تصب . فقلت : الزكاة والحج . فقال : لم تصب ، ولكنهن الكلمات الخمس : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن نافع عن سرجس ، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن : ( والباقيات الصالحات ) قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، [ وسبحان الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . قال ابن جريج : وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك .
وقال مجاهد : ( والباقيات الصالحات ) سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ] .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الحسن وقتادة في قوله : " الباقيات الصالحات " قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، وسبحان الله ، هن الباقيات الصالحات .
قال ابن جرير : وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار ، عن أبي نصر التمار ، عن عبد العزيز بن مسلم ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، من الباقيات الصالحات " .
قال : وحدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن ابن الهيثم ، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " استكثروا من الباقيات الصالحات " . قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " الملة " . قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " التكبير ، والتهليل ، والتسبيح ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله " .
وهكذا رواه أحمد ، من حديث دراج ، به .
وبه قال ابن وهب : أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن ، مولى سالم بن عبد الله [ ص: ١٦٣ ] حدثه قال : أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي ، فقال : قل له : القني عند زاوية القبر فإن لي إليك حاجة . قال : فالتقيا ، فسلم أحدهما على الآخر ، ثم قال سالم : ما تعد الباقيات الصالحات ؟ فقال : لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال له سالم : متى جعلت فيها " لا حول ولا قوة إلا بالله ؟ " فقال : ما زلت أجعلها . قال : فراجعه مرتين أو ثلاثا ، فلم ينزع ، قال فأبيت قال سالم : أجل فأبيت فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يقول : " عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام ، فقال : يا جبريل من هذا معك ؟ فقال : محمد فرحب بي وسهل ، ثم قال : مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة ، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة . فقلت : وما غراس الجنة ؟ قال : لا حول ولا قوة إلا بالله "
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن يزيد ، عن العوام ، حدثني رجل من الأنصار ، من آل النعمان بن بشير ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء ، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض ، حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء ، ثم قال : " أما إنه سيكون بعدي أمراء ، يكذبون ويظلمون ، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم ، فليس مني ولا أنا منه ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم فهو مني وأنا منه . ألا وإن " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر هن الباقيات الصالحات "
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى بن كثير ، عن زيد ، عن أبي سلام [ عن ] مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ] قال : " بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده " . وقال : " بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنا بهن ، دخل الجنة : يؤمن بالله ، واليوم الآخر ، وبالجنة وبالنار ، وبالبعث بعد الموت ، وبالحساب
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال : كان شداد بن أوس رضي الله عنه ، [ في سفر ] فنزل منزلا فقال لغلامه : " ائتنا بالشفرة نعبث بها " . فأنكرت عليه ، فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه . فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، وأسألك من خير [ ص: ١٦٤ ] ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب "
ثم رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد ، بنحوه
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثني أبي ، حدثنا عمر بن الحسين ، عن يونس بن نفيع الجدلي ، عن سعد بن جنادة - رضي الله عنه - قال : كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف ، فخرجت من أهلي من السراة غدوة ، فأتيت منى عند العصر ، فتصاعدت في الجبل ثم هبطت ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، وعلمني : ( قل هو الله أحد ) و ( إذا زلزلت ) وعلمني هؤلاء الكلمات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وقال : " هن الباقيات الصالحات " . وبهذا الإسناد : " من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه ، ثم قال : سبحان الله مائة مرة ، والحمد لله مائة مرة ، والله أكبر مائة مرة ، ولا إله إلا الله مائة مرة ، غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل "
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( والباقيات الصالحات ) قال : هي ذكر الله ، قول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، وتبارك الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأستغفر الله ، وصلى الله على رسول الله ، والصيام ، والصلاة ، والحج ، والصدقة ، والعتق ، والجهاد ، والصلة ، وجميع أعمال الحسنات . وهن الباقيات الصالحات ، التي تبقى لأهلها في الجنة ، ما دامت السموات والأرض .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هن الكلام الطيب .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي الأعمال الصالحة كلها . واختاره ابن جرير ، رحمه الله .
[ تفسير ابن كثير ]
السبت، 22 سبتمبر 2012
قال سبحانه وتعالى في سورة فصلت آية (١٥)
{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥)}
[ سورة فصلت آية ١٥ ]
فأما عاد قوم هود فقد استعلَوا في الأرض على العباد بغير حق, وقالوا في غرور: مَن أشد منا قوة؟ أولم يروا أن الله تعالى الذي خلقهم هو أشدُّ منهم قوة وبطشًا؟ وكانوا بأدلتنا وحججنا يجحدون.
[ تفسير الميسر ]
{ فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِى ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَقَالُواْ } لما خُوِّفوا بالعذاب { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } أي لا أحد، كان وأحدهم يقلع الصخرة العظيمة من الجبل يجعلها حيث يشاء { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } يعلموا { أَنَّ ٱللهَ ٱلَّذِىِ خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بئَايَـاتِنَا } المعجزات { يَجْحَدُونَ } . فصلت آية ١٥
[ تفسير الجلالين ] .
لما احتج قومُ عاد بقولهم { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } قيل لهم { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، وهكذا كل ما في المخلوقات من قوة وشدة تدل على أن الله أقوى وأشد ، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم ، وما فيها من علم وحياة يدل على أن الله أولى بالعلم والحياة ، فمن تمام الحجة الاستدلال بالأثر على المؤثر . [ فصلت ١٥]
[ابن تيمية – مجموع الفتاوى (١٦/٣٥٧)]
من كتاب ليدبروا آياته
[ سورة فصلت آية ١٥ ]
فأما عاد قوم هود فقد استعلَوا في الأرض على العباد بغير حق, وقالوا في غرور: مَن أشد منا قوة؟ أولم يروا أن الله تعالى الذي خلقهم هو أشدُّ منهم قوة وبطشًا؟ وكانوا بأدلتنا وحججنا يجحدون.
[ تفسير الميسر ]
{ فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِى ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَقَالُواْ } لما خُوِّفوا بالعذاب { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } أي لا أحد، كان وأحدهم يقلع الصخرة العظيمة من الجبل يجعلها حيث يشاء { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } يعلموا { أَنَّ ٱللهَ ٱلَّذِىِ خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بئَايَـاتِنَا } المعجزات { يَجْحَدُونَ } . فصلت آية ١٥
[ تفسير الجلالين ] .
لما احتج قومُ عاد بقولهم { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } قيل لهم { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، وهكذا كل ما في المخلوقات من قوة وشدة تدل على أن الله أقوى وأشد ، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم ، وما فيها من علم وحياة يدل على أن الله أولى بالعلم والحياة ، فمن تمام الحجة الاستدلال بالأثر على المؤثر . [ فصلت ١٥]
[ابن تيمية – مجموع الفتاوى (١٦/٣٥٧)]
من كتاب ليدبروا آياته
باب ما جاء في زكاة الذهب والورق - سنن الترميذي
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الملكِ بنِ أَبي الشَّوَارِبِ أَخبرنَا أَبُو عَوَانَةَ عن أَبي إِسحاقَ عن عاصمِ بن ضَمرَةَ عن عليٍّ قَالَ:
- قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد عَفَوتُ عن صَدَقَةِ الخَيلِ والرَّقيقِ فَهَاتُوا صَدَقَةِ الرَّقَةِ من كُلِّ أَربَعينَ دِرْهَماً دِرْهَمٌ. ولَيسَ لي في تِسعِينَ ومَائةٍ شيءٌ فإِذَا بَلغتْ مائتينِ فَفَيهَا خَمسةُ دَرَاهِمَ".
وفي البابِ عن أَبي بكرٍ الصِّدِّيقِ وعَمْرٍو بنِ حَزْمٍ.
قَالَ أَبُو عِيسَى: رَوَى هَذَا الحديثَ الأَعْمَشُ وأَبُو عَوَانَةَ وغيرُهُمَا عن أَبي إِسحاقَ عن عاصمِ بنِ ضَمرَةَ عن عليٍّ. ورَوَى سُفيَانُ الثَّوريِّ وابنُ عُيَينَةَ وغيرُ واحدٍ عن أَبي إِسحاقَ عن الحارثِ عن عليٍّ. قَالَ: وسأَلتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسماعيلَ عن هَذَا الحديثِ فَقَالَ كِلاهُمَا عِندِي صَحيحٌ عن أَبي إِسحاقَ، يُحتَمَلُ أَنْ يكونَ عَنهُمَا جميعاً.
باب ما جاء في زكاة الذهب والورق سنن الترميذي
- قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد عَفَوتُ عن صَدَقَةِ الخَيلِ والرَّقيقِ فَهَاتُوا صَدَقَةِ الرَّقَةِ من كُلِّ أَربَعينَ دِرْهَماً دِرْهَمٌ. ولَيسَ لي في تِسعِينَ ومَائةٍ شيءٌ فإِذَا بَلغتْ مائتينِ فَفَيهَا خَمسةُ دَرَاهِمَ".
وفي البابِ عن أَبي بكرٍ الصِّدِّيقِ وعَمْرٍو بنِ حَزْمٍ.
قَالَ أَبُو عِيسَى: رَوَى هَذَا الحديثَ الأَعْمَشُ وأَبُو عَوَانَةَ وغيرُهُمَا عن أَبي إِسحاقَ عن عاصمِ بنِ ضَمرَةَ عن عليٍّ. ورَوَى سُفيَانُ الثَّوريِّ وابنُ عُيَينَةَ وغيرُ واحدٍ عن أَبي إِسحاقَ عن الحارثِ عن عليٍّ. قَالَ: وسأَلتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسماعيلَ عن هَذَا الحديثِ فَقَالَ كِلاهُمَا عِندِي صَحيحٌ عن أَبي إِسحاقَ، يُحتَمَلُ أَنْ يكونَ عَنهُمَا جميعاً.
باب ما جاء في زكاة الذهب والورق سنن الترميذي
أبو قدامة وصاحبة الضفيرتين
أورد ابنُ الجوزي في صفة الصفوة وابنُ النحاس في مشارع الأشواق عن رجل من الصالحين اسمه أبو قدامة الشامي .. وكان رجلاً قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه ، فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال : يا أبا قدامة أنت رجل قد حبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو
فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك :
خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينةٍ في العراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي، ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله، فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق عليّ ، فلما فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها
فقلت : ماتريدين ؟
قالت : أنت أبو قدامة ؟
قلت : نعم
قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟
قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية،فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها: إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي.
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة. فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ، فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قف عليَّ يرحمك الله ، قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي :
تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائباً.
فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال .
فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك.
فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة.
فقلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟
قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي.
قلت : أعندك والدة؟
قال : نعم
قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها
فقال : أما تعرف أمي ؟
قلت : لا
قال : أمي هي صاحبة الوديعة
قلت : أي وديعة؟
قال : هي صاحبة الشكال
قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع مانسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟
قلت : بلى
قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر ، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيَّ.. ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت بصرها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي، هذا ولدي ،وريحانةُ قلبي، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيه وأخواله..
ثم قال: سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد ، فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرمي ، فلا تحقرَنِّي لصغر سني..
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا ، فوالله ما رأينا أنشط منه، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً.
فنزلنا منزلاً..وكنا صائمين وأردنا أن نصنع فطورنا..فأقسم الغلام أن لا يصنع الفطور إلا هو..فأبينا وأبى..فذهب يصنع الفطور..وأبطأ علينا..فإذا أحد أصحابي يقول لي يا أبا قدامة اذهب وانظر ما أمر صاحبك..فلما ذهبت فإذا الغلام قد أشعل النار بالحطب ووضع من فوقها القدر..ثم غلبه التعب والنوم ووضع رأسه على حجر ثم نام..
فكرهت أن أوقظه من منامه..وكرهت أن أرجع الى أصحابي خالي اليدين..فقمت بصنع الفطور بنفسي وكان الغلام على مرأى مني..فبينما هو نائم لاحظته بدأ يتبسم .. ثم اشتد تبسمه فتعجبت ثم بدأ يضحك ثم اشتد ضحكة ثم استيقظ.. فلما رآني فزع الغلام وقال: ياعمي أبطأت عليكم دعني أصنع الطعام عنك..أنا خادمكم في الجهاد.
فقال أبو قدامة: لا والله لست بصانع لنا شيء حتى تخبرني ما رأيت في منامك وجعلك تضحك وتتبسم .
فقال: يا عمي هذه رؤيا رأيتها..
فقلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها .
فقال: دعها.. بيني وبين الله تعالى
فقلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها
قال: رأيت ياعمي في منامي أني دخلت إلى الجنة فهي بحسنها وجمالها كما أخبر الله في كتابه..فبينما أنا أمشي فيها وأنا بعجب شديد من حسنها وجمالها..إذ رأيت قصراً يتلألأ أنواراً , لبنة من ذهب ولبنة من فضة ،وإذا شُرفاته من الدرّ والياقوت والجوهر ، وأبوابه من ذهب ، وإذا ستور مرخية على شرفاته ، وإذا بجواري يرفعن الستور ، وجوههن كالأقمار ..فلما رأيت حسنهن أخذت أنظر إليهن وأتعجب من حسنهن فإذا بجارية كأحسن ما أنت رائي من الجواري وإذ بها تشير إلي وتحدث صاحبتها وتقول هذا زوج المرضية هذا زوج المرضية..فقلت لها أنتي المرضية؟؟؟
فقالت: أنا خادمة من خدم المرضية..تريد المرضية؟؟ ادخل إلى القصر..تقدم يرحمك الله فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر ، قوائمه من الفضة البيضاء ، عليه جارية وجهها كأنه الشمس، لولا أن الله ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..
فلما رأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي .. فلما سمعت كلامها اقتربت منها وكدت ان أضع يدي عليها قالت : يا خليلي يا حبيبي أبعد الله عنك الخناء قد بقي لك في الحياة شيء وموعدنا معك غدًا بعد صلاة الظهر.. فتبسمت من ذلك وفرحت منه يا عم.
فقلت له: رأيت خيرًا إن شاء الله.
ثم إننا أكلنا فطورنا ومضينا الى أصحابنا المرابطين في الثغور ثم حضر عدونا..وصف الجيوش قائدنا..
وبينما أنا أتأمل في الناس..فإذ كل منهم يجمع حوله أقاربه وإخوانه..إلا الغلام..فبحثت عنه ووجدته في مقدمة الصفوف..فذهبت إليه وقلت: يا بني هل أنت خبير بأمور الجهاد؟؟ قال لا يا عم هذه والله أول معركة لي مع الكفار.
فقلت يا بني إن الأمر خلاف على مافي بالك ، إن الأمر قتال ودماء..فيا بني كن في آخر الجيش فان انتصرنا فأنت معنا من المنتصرين وإن هُزمنا لم تكن أول القتلى..
فقال متعجبا: أنت تقول لي ذلك؟؟
قلت: نعم أنا أقول ذلك .
قال: يا عم أتود أن أكون من أهل النار؟
قلت أعوذ بالله.. لا والله .. والله ما جئنا إلى الجهاد إلا خوفًا منها..
فقال الغلام: فان الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴿١٥﴾ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّـهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )
هل تريدني أوليهم الأدبار فأكون من أهل النار؟
فعجبت والله من حرصه وتمسكه بالآيات فقلت له يا بني إن الآية مخرجها على غير كلامك..فأبى يرجع فأخذت بيده أُرجعه إلى آخر الصفوف وأخذ يسحب يده عني فبدأت الحرب وحالت بيني وبينه..
فجالت الأبطال ،ورُميت النبال ، وجُرِّدت السيوف ، وتكسرت الجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل .. واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ، وقال كل خليل كنت آمله ..لا ألهينك إني عنك مشغول.. حتى دخل وقت صلاة الظهر فهزم الله جل وعلا الصليبين…فلما انتصرنا جمعت أصحابي وصلينا الظهر وبعد ذلك ذهب كل منا يبحث عن أهله وأصحابه..إلا الغلام فليس هنالك من يسأل عنه فذهبت أبحث عنه..فبينما أنا اتفقده وإذا بصوت يقول: أيهاالناس ابعثوا إلي عمي أبا قُدامة ابعثوا إلي عمي أبا قدامة.. فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام ..وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه فمزقت اللحمان ، وأدمت اللسان وفرقت الأعضاء ، وكسرت العظام .. وإذا هو يتيم مُلقى في الصحراء .
قال أبو قدامة : فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه ، وصرخت : ها أنا أبوقدامة .. ها أنا أبوقدامة ..
فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ،فاسمع وصيتي. قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه التي فجعت عام أول بأبيه وأخواله وتفجع
الآن به، أخذت طرف ثوبي أمسح الدم عن وجهه.
فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك ، فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك ..
قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً ..
فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قُتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة ، .. ثم قال : يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدم، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول ، وقل لها إن الموعد الجنة إن شاء الله ..
يا عم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلتُ المنزل إلا استبشرتْ وفرحتْ، ولا خرجتُ إلا بكتْ وحزنتْ ، وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وتفجع بمقتلي اليوم ،وإنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر : يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات ..وقل لها يقول لك أخوكِ الله خليفتي عليكي.. ثم تحامل الغلام على نفسه وقال : يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة ، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها ..ثم انتفض وتصبب العرق وشهق شهقات ، ثم مات.
قال أبو قدامة : فأخذت بعض ثيابه فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أنأرجعَ إلى الرقة وأبلغَ رسالته لأمه ..
فرجعت إلى الرقة وأنا لا أدري ما اسم أمه وأين تسكن..فبينما أنا أمشي وقفت عند منزل تقف على بابه فتاة صغيرة ما يمر أحد من عند بابهم وعليه أثر السفر إلا سألته يا عمي من أين أتيت فيقول من الجهاد فتقول له معكم أخي؟..
فيقول ما أدري مَن أخوك ويمضي..وتكرر ذلك مرارًا مع المارة ويتكرر معها نفس الرد..فبكت أخيرًا وقالت: مالي أرى الناس يرجعون وأخي لا يرجع..
فلما رأيت حالها أقبلت عليها..فرأت علي أثر السفر فقالت يا عم من أين أتيت قلت من الجهاد فقالت معكم أخي فقلت أين هي أمك؟؟
قالت: في الداخل ودخلت تناديها..فلما أتت الأم وسمعت صوتي عرفتني وقالت: يا أبا قدامة أقبلت معزيًا أم مبشرًا؟؟
فقلت: كيف أكون معزيًا ومبشرًا؟
فقالت: إن كنت أقبلت تخبرني أن ولدي قُتل في سبيل الله مقبل غير مدبر فأنت تبشرني بأن الله قد قبل هديتي التي أعدتها من سبعة عشر عامًا. وإن كنت قد أقبلت كي تخبرني أن ابني رجع سالمًا معه الغنيمة فإنك تعزيني لأن الله لم يقبل هديتي إليه..
فقلت لها: بل أنا والله مبشر إن ولدك قد قتل مقبل غير مدبر..فقالت ما أظنك صادقًا وهي تنظر إلى الكيس ثم فتحت الكيس وإذا بالدماء تغطي الملابس فقلت لها أليست هذه ثيابه التي ألبستيه إياها بيدك؟
فقالت الله أكبر وفرحت.. أما الصغيرة فشهقت ثم وقعت على الأرض ففزعت أمها ودخلت تحضر لها ماء تسكبها على وجهها.. أما أنا فجلست أقرأ القرآن عند رأسها..و والله مازالت تشهق وتنادي باسم أبيها وأخيها..وما غادرتها إلا ميتة..
فأخذتها أمها وأدخلتها وأغلقت الباب وسمعتُها تقول: اللهم إني قد قدمت زوجي وإخواني وولدي في سبيلك ٫اللهم أسألك أن ترضى عني وتجمعني وإياهم في جنتك .
http://i.imgur.com/l8ZCk.jpg
فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك :
خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينةٍ في العراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي، ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله، فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق عليّ ، فلما فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها
فقلت : ماتريدين ؟
قالت : أنت أبو قدامة ؟
قلت : نعم
قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟
قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية،فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها: إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي.
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة. فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ، فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قف عليَّ يرحمك الله ، قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي :
تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائباً.
فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال .
فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك.
فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة.
فقلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟
قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي.
قلت : أعندك والدة؟
قال : نعم
قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها
فقال : أما تعرف أمي ؟
قلت : لا
قال : أمي هي صاحبة الوديعة
قلت : أي وديعة؟
قال : هي صاحبة الشكال
قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع مانسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟
قلت : بلى
قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر ، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيَّ.. ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت بصرها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي، هذا ولدي ،وريحانةُ قلبي، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيه وأخواله..
ثم قال: سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد ، فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرمي ، فلا تحقرَنِّي لصغر سني..
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا ، فوالله ما رأينا أنشط منه، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً.
فنزلنا منزلاً..وكنا صائمين وأردنا أن نصنع فطورنا..فأقسم الغلام أن لا يصنع الفطور إلا هو..فأبينا وأبى..فذهب يصنع الفطور..وأبطأ علينا..فإذا أحد أصحابي يقول لي يا أبا قدامة اذهب وانظر ما أمر صاحبك..فلما ذهبت فإذا الغلام قد أشعل النار بالحطب ووضع من فوقها القدر..ثم غلبه التعب والنوم ووضع رأسه على حجر ثم نام..
فكرهت أن أوقظه من منامه..وكرهت أن أرجع الى أصحابي خالي اليدين..فقمت بصنع الفطور بنفسي وكان الغلام على مرأى مني..فبينما هو نائم لاحظته بدأ يتبسم .. ثم اشتد تبسمه فتعجبت ثم بدأ يضحك ثم اشتد ضحكة ثم استيقظ.. فلما رآني فزع الغلام وقال: ياعمي أبطأت عليكم دعني أصنع الطعام عنك..أنا خادمكم في الجهاد.
فقال أبو قدامة: لا والله لست بصانع لنا شيء حتى تخبرني ما رأيت في منامك وجعلك تضحك وتتبسم .
فقال: يا عمي هذه رؤيا رأيتها..
فقلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها .
فقال: دعها.. بيني وبين الله تعالى
فقلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها
قال: رأيت ياعمي في منامي أني دخلت إلى الجنة فهي بحسنها وجمالها كما أخبر الله في كتابه..فبينما أنا أمشي فيها وأنا بعجب شديد من حسنها وجمالها..إذ رأيت قصراً يتلألأ أنواراً , لبنة من ذهب ولبنة من فضة ،وإذا شُرفاته من الدرّ والياقوت والجوهر ، وأبوابه من ذهب ، وإذا ستور مرخية على شرفاته ، وإذا بجواري يرفعن الستور ، وجوههن كالأقمار ..فلما رأيت حسنهن أخذت أنظر إليهن وأتعجب من حسنهن فإذا بجارية كأحسن ما أنت رائي من الجواري وإذ بها تشير إلي وتحدث صاحبتها وتقول هذا زوج المرضية هذا زوج المرضية..فقلت لها أنتي المرضية؟؟؟
فقالت: أنا خادمة من خدم المرضية..تريد المرضية؟؟ ادخل إلى القصر..تقدم يرحمك الله فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر ، قوائمه من الفضة البيضاء ، عليه جارية وجهها كأنه الشمس، لولا أن الله ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..
فلما رأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي .. فلما سمعت كلامها اقتربت منها وكدت ان أضع يدي عليها قالت : يا خليلي يا حبيبي أبعد الله عنك الخناء قد بقي لك في الحياة شيء وموعدنا معك غدًا بعد صلاة الظهر.. فتبسمت من ذلك وفرحت منه يا عم.
فقلت له: رأيت خيرًا إن شاء الله.
ثم إننا أكلنا فطورنا ومضينا الى أصحابنا المرابطين في الثغور ثم حضر عدونا..وصف الجيوش قائدنا..
وبينما أنا أتأمل في الناس..فإذ كل منهم يجمع حوله أقاربه وإخوانه..إلا الغلام..فبحثت عنه ووجدته في مقدمة الصفوف..فذهبت إليه وقلت: يا بني هل أنت خبير بأمور الجهاد؟؟ قال لا يا عم هذه والله أول معركة لي مع الكفار.
فقلت يا بني إن الأمر خلاف على مافي بالك ، إن الأمر قتال ودماء..فيا بني كن في آخر الجيش فان انتصرنا فأنت معنا من المنتصرين وإن هُزمنا لم تكن أول القتلى..
فقال متعجبا: أنت تقول لي ذلك؟؟
قلت: نعم أنا أقول ذلك .
قال: يا عم أتود أن أكون من أهل النار؟
قلت أعوذ بالله.. لا والله .. والله ما جئنا إلى الجهاد إلا خوفًا منها..
فقال الغلام: فان الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴿١٥﴾ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّـهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )
هل تريدني أوليهم الأدبار فأكون من أهل النار؟
فعجبت والله من حرصه وتمسكه بالآيات فقلت له يا بني إن الآية مخرجها على غير كلامك..فأبى يرجع فأخذت بيده أُرجعه إلى آخر الصفوف وأخذ يسحب يده عني فبدأت الحرب وحالت بيني وبينه..
فجالت الأبطال ،ورُميت النبال ، وجُرِّدت السيوف ، وتكسرت الجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل .. واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ، وقال كل خليل كنت آمله ..لا ألهينك إني عنك مشغول.. حتى دخل وقت صلاة الظهر فهزم الله جل وعلا الصليبين…فلما انتصرنا جمعت أصحابي وصلينا الظهر وبعد ذلك ذهب كل منا يبحث عن أهله وأصحابه..إلا الغلام فليس هنالك من يسأل عنه فذهبت أبحث عنه..فبينما أنا اتفقده وإذا بصوت يقول: أيهاالناس ابعثوا إلي عمي أبا قُدامة ابعثوا إلي عمي أبا قدامة.. فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام ..وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه فمزقت اللحمان ، وأدمت اللسان وفرقت الأعضاء ، وكسرت العظام .. وإذا هو يتيم مُلقى في الصحراء .
قال أبو قدامة : فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه ، وصرخت : ها أنا أبوقدامة .. ها أنا أبوقدامة ..
فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ،فاسمع وصيتي. قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه التي فجعت عام أول بأبيه وأخواله وتفجع
الآن به، أخذت طرف ثوبي أمسح الدم عن وجهه.
فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك ، فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك ..
قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً ..
فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قُتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة ، .. ثم قال : يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدم، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول ، وقل لها إن الموعد الجنة إن شاء الله ..
يا عم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلتُ المنزل إلا استبشرتْ وفرحتْ، ولا خرجتُ إلا بكتْ وحزنتْ ، وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وتفجع بمقتلي اليوم ،وإنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر : يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات ..وقل لها يقول لك أخوكِ الله خليفتي عليكي.. ثم تحامل الغلام على نفسه وقال : يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة ، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها ..ثم انتفض وتصبب العرق وشهق شهقات ، ثم مات.
قال أبو قدامة : فأخذت بعض ثيابه فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أنأرجعَ إلى الرقة وأبلغَ رسالته لأمه ..
فرجعت إلى الرقة وأنا لا أدري ما اسم أمه وأين تسكن..فبينما أنا أمشي وقفت عند منزل تقف على بابه فتاة صغيرة ما يمر أحد من عند بابهم وعليه أثر السفر إلا سألته يا عمي من أين أتيت فيقول من الجهاد فتقول له معكم أخي؟..
فيقول ما أدري مَن أخوك ويمضي..وتكرر ذلك مرارًا مع المارة ويتكرر معها نفس الرد..فبكت أخيرًا وقالت: مالي أرى الناس يرجعون وأخي لا يرجع..
فلما رأيت حالها أقبلت عليها..فرأت علي أثر السفر فقالت يا عم من أين أتيت قلت من الجهاد فقالت معكم أخي فقلت أين هي أمك؟؟
قالت: في الداخل ودخلت تناديها..فلما أتت الأم وسمعت صوتي عرفتني وقالت: يا أبا قدامة أقبلت معزيًا أم مبشرًا؟؟
فقلت: كيف أكون معزيًا ومبشرًا؟
فقالت: إن كنت أقبلت تخبرني أن ولدي قُتل في سبيل الله مقبل غير مدبر فأنت تبشرني بأن الله قد قبل هديتي التي أعدتها من سبعة عشر عامًا. وإن كنت قد أقبلت كي تخبرني أن ابني رجع سالمًا معه الغنيمة فإنك تعزيني لأن الله لم يقبل هديتي إليه..
فقلت لها: بل أنا والله مبشر إن ولدك قد قتل مقبل غير مدبر..فقالت ما أظنك صادقًا وهي تنظر إلى الكيس ثم فتحت الكيس وإذا بالدماء تغطي الملابس فقلت لها أليست هذه ثيابه التي ألبستيه إياها بيدك؟
فقالت الله أكبر وفرحت.. أما الصغيرة فشهقت ثم وقعت على الأرض ففزعت أمها ودخلت تحضر لها ماء تسكبها على وجهها.. أما أنا فجلست أقرأ القرآن عند رأسها..و والله مازالت تشهق وتنادي باسم أبيها وأخيها..وما غادرتها إلا ميتة..
فأخذتها أمها وأدخلتها وأغلقت الباب وسمعتُها تقول: اللهم إني قد قدمت زوجي وإخواني وولدي في سبيلك ٫اللهم أسألك أن ترضى عني وتجمعني وإياهم في جنتك .
http://i.imgur.com/l8ZCk.jpg
الجمعة، 21 سبتمبر 2012
سورة غافر آية (٧)
قال سبحانه وتعالى :
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) } [ سورة غافر ]
الذين يحملون عرش الرحمن من الملائكة ومَن حول العرش ممن يحف به منهم, ينزِّهون الله عن كل نقص, ويحمَدونه بما هو أهل له, ويؤمنون به حق الإيمان, ويطلبون منه أن يعفو عن المؤمنين, قائلين : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا, فاغفر للذين تابوا من الشرك والمعاصي, وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه وهو الإسلام, وجَنِّبْهم عذاب النار وأهوالها. تفسير الميسر
قال خلف بن هشام : أتيت سليم بن عيسى لأقرأ عليه ، فكنت أقرأ عليه حتى بلغت يوماً سورة غافر فلما بلغت إلى قوله تعالى
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر٧] بكى بكاءُ شديداً، ثم قال لي : يا خلف ألا ترى ما أعظم حق المؤمن ؟ تراه نائماً على فراشه والملائكة يستغفرون له .
[ابن خلكان – وفيات الأعيان (٢/٢٤٢)]
من كتاب ليدبروا آياته
{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ } مبتدأ { وَمَنْ حَوْلَهُ } عطف عليه { يُسَبِّحُونَ } خبره { بِحَمْدِ رَبّهِمْ } ملابسين للحمد، أي يقولون: سبحان الله وبحمده { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } تعالى ببصائرهم أي يصدقون بوحدانيته { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } يقولون { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } أي وسعت رحمتُك كلَّ شيء وعلمُك كلَّ شيء { فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ } من الشرك { وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } دين الإِسلام { وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } النار. تفسير الجلالين
الذين يحملون العرش: أي الملائكة حملة العرش.
ومن حوله: أي والملائكة الذي يحفون بالعرش من جميع جوانبه.
يسبحون بحمد ربهم: أي يقولون سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم هذه صلاتهم وتسبيحهم.
ويؤمنون به: كيف لا وهم عنده، ولكن هذا من باب الوصف بالكمال لهم.
ويستغفرون للذين آمنوا: أي يطلبون المغفرة للمؤمنين لرابطة الإِيمان بالله التي تربطهم بهم.
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما: أي يقولون يا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك: أي فبما أن رحمتك وعلمك وسعا كل مخلوقاتك فاغفر للذين تابوا إليك فعبدوك ووحدوك واتبعوا سبيلك الذي هو الإِسلام.
وقهم عذاب الجحيم: أي احفظهم من النار فلا تُعذّبهم بها.
جنات عدن: أي بساتين فيها قصور وأنهار للإِقامة الدائمة.
التي وعدتهم: أي بقوله تعالى: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتهم الأنهار.
ومن صلح من آبائهم: أي ومن صلح بالإِيمان ولم يفسد بالشرك والكفر.
وقهم السيئات: أي احفظهم من جزاء السيئات التي عملوها فلا تؤاخذهم بها.
ومن تق السيئات يومئذ: أي ومن تقه جزاء سيئاته يوم القيامة فلم تؤاخذه.
فقد رحمته: أي حيث سترته ولم تفضحه وعفوت عنه ولم تعذبه.
وذلك: أي الوقاية من العذاب وإدخال الجنة
هو الفوز العظيم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ } يخبر تعالى عن عظمته وموجبات الإِيمان به وبآياته وتوحيده ولقائه فيقول الذي يحملون العرش أي عرشه من الملائكة كالملائكة الذين يحفون بعرشه الجميع { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } تسبيحاً مقروناً بالحمد بأن يقولوا سبحان الله وبحمده ويؤمنون به أي يؤمنون بوحدانيته وعدم الإِشراك في عبادته { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } لرابطة الإِيمان التي ربطتهم بهم ولعل هذا السرَّ في ذكر إيمانهم لأن المؤمنين إخوة واستغفارهم هو طلب المغفرة من الله للمؤمنين من عباده. وهو معنى قوله: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } أي يقولون متوسلين إليه سبحانه وتعالى بصفاته { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } أي يا ربنا وسعت رحمتك وعلمك سائر المخلوقات فاغفر للذين تابوا أي إليك فتركوا الشرك واتبعوا سبيلك الذي هو الإِسلام فانقادوا لأمرك ونهيك، وقهم عذاب الجحيم أي احفظهم يا ربنا من عذاب النار وأدخلهم جنات عَدْنٍ أي إقامة من دخلها لا يخرج منها ولا يبغي عنها حولا لكمال نعيمها ووفرة السعادة فيها. ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريَّتهم أي وادخل كذلك من صلح بالإِيمان والتوحيد من آبائهم وأزواجهم وذريَّاتهم فألحقهم بدرجاتهم ليكونوا معهم وإن قصرت بهم أعمالهم. وقولهم إنك أنت العزيز الحكيم توسل أيضاً إليه تعالى بصفتي العزة والغلبة والقهر لكل المخلوقات والحكمة المتجلية في سائر الكائنات.
وقولهم: { وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَاتِ } أي واحفظهم من جزاء سيئاتهم بأن تغفرها لهم وتسترها عليهم حتى يتأهّلوا للحاق بأبنائهم الذين نسألك أن تلحقهم بِهِمْ، { وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة { فَقَدْ رَحِمْتَهُ } ، { وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم لقوله تعالى:
{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }
[آل عمران: ١٨٥]. ومعنى ومن تق السيئآت أي تقيه عذابها وذلك بأن يغفرها لهم ويعفو عنهم فلا يؤاخذهم بها، فينجوا من النار ويدخلوا الجنة وذلك أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان عظم الرب تعالى.
٢- بيان فضل الإِيمان وأهله.
٣- فضل التسبيح بقول: سبحان الله وبحمده فقد صح أن من قالها مائة مرة حين يصبح أو حين يمسي غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر أي في الكثرة.
٤- بشرى المؤمنين بأن الله تعالى يجمعهم بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم في الجنة، وقد استجاب الله للملائكة وقد أخبر تعالى عن ذلك بقوله: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الطور: ٢١].
[ أيسر التفاسير أبو بكر الجزائري ]
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) } [ سورة غافر ]
الذين يحملون عرش الرحمن من الملائكة ومَن حول العرش ممن يحف به منهم, ينزِّهون الله عن كل نقص, ويحمَدونه بما هو أهل له, ويؤمنون به حق الإيمان, ويطلبون منه أن يعفو عن المؤمنين, قائلين : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا, فاغفر للذين تابوا من الشرك والمعاصي, وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه وهو الإسلام, وجَنِّبْهم عذاب النار وأهوالها. تفسير الميسر
قال خلف بن هشام : أتيت سليم بن عيسى لأقرأ عليه ، فكنت أقرأ عليه حتى بلغت يوماً سورة غافر فلما بلغت إلى قوله تعالى
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر٧] بكى بكاءُ شديداً، ثم قال لي : يا خلف ألا ترى ما أعظم حق المؤمن ؟ تراه نائماً على فراشه والملائكة يستغفرون له .
[ابن خلكان – وفيات الأعيان (٢/٢٤٢)]
من كتاب ليدبروا آياته
{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ } مبتدأ { وَمَنْ حَوْلَهُ } عطف عليه { يُسَبِّحُونَ } خبره { بِحَمْدِ رَبّهِمْ } ملابسين للحمد، أي يقولون: سبحان الله وبحمده { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } تعالى ببصائرهم أي يصدقون بوحدانيته { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } يقولون { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } أي وسعت رحمتُك كلَّ شيء وعلمُك كلَّ شيء { فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ } من الشرك { وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } دين الإِسلام { وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } النار. تفسير الجلالين
الذين يحملون العرش: أي الملائكة حملة العرش.
ومن حوله: أي والملائكة الذي يحفون بالعرش من جميع جوانبه.
يسبحون بحمد ربهم: أي يقولون سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم هذه صلاتهم وتسبيحهم.
ويؤمنون به: كيف لا وهم عنده، ولكن هذا من باب الوصف بالكمال لهم.
ويستغفرون للذين آمنوا: أي يطلبون المغفرة للمؤمنين لرابطة الإِيمان بالله التي تربطهم بهم.
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما: أي يقولون يا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك: أي فبما أن رحمتك وعلمك وسعا كل مخلوقاتك فاغفر للذين تابوا إليك فعبدوك ووحدوك واتبعوا سبيلك الذي هو الإِسلام.
وقهم عذاب الجحيم: أي احفظهم من النار فلا تُعذّبهم بها.
جنات عدن: أي بساتين فيها قصور وأنهار للإِقامة الدائمة.
التي وعدتهم: أي بقوله تعالى: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتهم الأنهار.
ومن صلح من آبائهم: أي ومن صلح بالإِيمان ولم يفسد بالشرك والكفر.
وقهم السيئات: أي احفظهم من جزاء السيئات التي عملوها فلا تؤاخذهم بها.
ومن تق السيئات يومئذ: أي ومن تقه جزاء سيئاته يوم القيامة فلم تؤاخذه.
فقد رحمته: أي حيث سترته ولم تفضحه وعفوت عنه ولم تعذبه.
وذلك: أي الوقاية من العذاب وإدخال الجنة
هو الفوز العظيم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ } يخبر تعالى عن عظمته وموجبات الإِيمان به وبآياته وتوحيده ولقائه فيقول الذي يحملون العرش أي عرشه من الملائكة كالملائكة الذين يحفون بعرشه الجميع { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } تسبيحاً مقروناً بالحمد بأن يقولوا سبحان الله وبحمده ويؤمنون به أي يؤمنون بوحدانيته وعدم الإِشراك في عبادته { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } لرابطة الإِيمان التي ربطتهم بهم ولعل هذا السرَّ في ذكر إيمانهم لأن المؤمنين إخوة واستغفارهم هو طلب المغفرة من الله للمؤمنين من عباده. وهو معنى قوله: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } أي يقولون متوسلين إليه سبحانه وتعالى بصفاته { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } أي يا ربنا وسعت رحمتك وعلمك سائر المخلوقات فاغفر للذين تابوا أي إليك فتركوا الشرك واتبعوا سبيلك الذي هو الإِسلام فانقادوا لأمرك ونهيك، وقهم عذاب الجحيم أي احفظهم يا ربنا من عذاب النار وأدخلهم جنات عَدْنٍ أي إقامة من دخلها لا يخرج منها ولا يبغي عنها حولا لكمال نعيمها ووفرة السعادة فيها. ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريَّتهم أي وادخل كذلك من صلح بالإِيمان والتوحيد من آبائهم وأزواجهم وذريَّاتهم فألحقهم بدرجاتهم ليكونوا معهم وإن قصرت بهم أعمالهم. وقولهم إنك أنت العزيز الحكيم توسل أيضاً إليه تعالى بصفتي العزة والغلبة والقهر لكل المخلوقات والحكمة المتجلية في سائر الكائنات.
وقولهم: { وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَاتِ } أي واحفظهم من جزاء سيئاتهم بأن تغفرها لهم وتسترها عليهم حتى يتأهّلوا للحاق بأبنائهم الذين نسألك أن تلحقهم بِهِمْ، { وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة { فَقَدْ رَحِمْتَهُ } ، { وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم لقوله تعالى:
{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }
[آل عمران: ١٨٥]. ومعنى ومن تق السيئآت أي تقيه عذابها وذلك بأن يغفرها لهم ويعفو عنهم فلا يؤاخذهم بها، فينجوا من النار ويدخلوا الجنة وذلك أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان عظم الرب تعالى.
٢- بيان فضل الإِيمان وأهله.
٣- فضل التسبيح بقول: سبحان الله وبحمده فقد صح أن من قالها مائة مرة حين يصبح أو حين يمسي غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر أي في الكثرة.
٤- بشرى المؤمنين بأن الله تعالى يجمعهم بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم في الجنة، وقد استجاب الله للملائكة وقد أخبر تعالى عن ذلك بقوله: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الطور: ٢١].
[ أيسر التفاسير أبو بكر الجزائري ]
الخميس، 20 سبتمبر 2012
باب المراقبة في سورة آل عمران آية (٥)
قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (٥) } "آل عمران"
إن الله محيط علمه بالخلائق, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء, قلَّ أو كثر.
[ تفسير الميسر ]
هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل؛ ومثله في القرآن كثير. فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون؛ فكيف يكون عيسى إلهاً أو ٱبن إله وهو تَخْفى عليه الأشياء!
[ تفسير الجامع لأحكام القرآن القرطبي ]
هذه الجملة استئنافية لبيان سعة علمه، وإحاطته بالمعلومات، بما في الأرض والسماء، مع كونها أوسع من ذلك، لقصور عباده عن العلم بما سواهما من أمكنة مخلوقاته، وسائر معلوماته، ومن جملة ما لا يخفى عليه إيمان من آمن من خلقه، وكفر من كفر.
[ تفسير فتح القدير الشوكاني ]
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ } كائن { فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاءِ } لعلمه بما يقع في العالم من كُلِّي وجزئيّ وخصهما بالذكر لأنّ الحس لا يتجاوزهما.
[ تفسير الجلالين ]
إن الله محيط علمه بالخلائق, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء, قلَّ أو كثر.
[ تفسير الميسر ]
هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل؛ ومثله في القرآن كثير. فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون؛ فكيف يكون عيسى إلهاً أو ٱبن إله وهو تَخْفى عليه الأشياء!
[ تفسير الجامع لأحكام القرآن القرطبي ]
هذه الجملة استئنافية لبيان سعة علمه، وإحاطته بالمعلومات، بما في الأرض والسماء، مع كونها أوسع من ذلك، لقصور عباده عن العلم بما سواهما من أمكنة مخلوقاته، وسائر معلوماته، ومن جملة ما لا يخفى عليه إيمان من آمن من خلقه، وكفر من كفر.
[ تفسير فتح القدير الشوكاني ]
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ } كائن { فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاءِ } لعلمه بما يقع في العالم من كُلِّي وجزئيّ وخصهما بالذكر لأنّ الحس لا يتجاوزهما.
[ تفسير الجلالين ]
رياض الصالحين - باب المراقبة
الثالث عن ابن عباس رسول الله قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه و سلم يوما فقال : [ يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف ] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي رواية غير الترمذي : [ احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ].
من رياض الصالحين
من رياض الصالحين
حديث : لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول
سنن ابن ماجة عن / عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
« لاَ زَكاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحول » .
[ صحيح _ انظر حديث رقم -٧٤٩٧- في صحيح جامع ]
٩٨٨٦ - (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) زاد في رواية عبد ربه أي يمر عليه العام من أوله إلى آخره وهو في ملكه -[٤٢٧]- ويجوز كون الحول فعلا مستقبلا مبنيا من لفظ الحول الذي هو السنة وأن يكون من قولهم حال إلى محل كذا أي تحول أو من حال الشخص إذا تحول من حال عن العهد إذا انقلب والكل متقارب ثم هذا فيما يرصد للزيادة والنماء أما ما هو نماء في نفسه كحب وتمر فلا يعتبر فيه حول عند الشافعي
(هـ عن عائشة) أشار المصنف إلى أنه حسن وذلك منه غير حسن فإن الحديث مروي من طريقين أحدهما لابن ماجه عن عائشة وهي الطريق التي سلكها وقد قال الحافظ العراقي: سندها ضعيف أي لضعف حارثة بن أبي الرجال راويه وقال ابن حجر: هو ضعيف وقال البيهقي: جارية ليس بحجة والأخرى من رواية أبي داود عن علي وسندها كما قال الزين العراقي جيد فانعكس على المصنف فحذف الطريق الحسنة الجيدة السند وآثر الطريقة الضعيفة وحسنها قال ابن حجر: وخرجه الدارقطني باللفظ المزبور عن أنس وفيه حسان بن سياه وفي ترجمته أورده ابن عدي وضعفه اه .
« لاَ زَكاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحول » .
[ صحيح _ انظر حديث رقم -٧٤٩٧- في صحيح جامع ]
٩٨٨٦ - (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) زاد في رواية عبد ربه أي يمر عليه العام من أوله إلى آخره وهو في ملكه -[٤٢٧]- ويجوز كون الحول فعلا مستقبلا مبنيا من لفظ الحول الذي هو السنة وأن يكون من قولهم حال إلى محل كذا أي تحول أو من حال الشخص إذا تحول من حال عن العهد إذا انقلب والكل متقارب ثم هذا فيما يرصد للزيادة والنماء أما ما هو نماء في نفسه كحب وتمر فلا يعتبر فيه حول عند الشافعي
(هـ عن عائشة) أشار المصنف إلى أنه حسن وذلك منه غير حسن فإن الحديث مروي من طريقين أحدهما لابن ماجه عن عائشة وهي الطريق التي سلكها وقد قال الحافظ العراقي: سندها ضعيف أي لضعف حارثة بن أبي الرجال راويه وقال ابن حجر: هو ضعيف وقال البيهقي: جارية ليس بحجة والأخرى من رواية أبي داود عن علي وسندها كما قال الزين العراقي جيد فانعكس على المصنف فحذف الطريق الحسنة الجيدة السند وآثر الطريقة الضعيفة وحسنها قال ابن حجر: وخرجه الدارقطني باللفظ المزبور عن أنس وفيه حسان بن سياه وفي ترجمته أورده ابن عدي وضعفه اه .
كل من خالف الرسول صلى الله عليه وسلم
كل من خالف الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلابد أن يتبع الظن وما تهوى الأنفس : {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ} .
[النجم23] مجموع الفتاوى (13/67) ابن تيمية
[النجم23] مجموع الفتاوى (13/67) ابن تيمية
ابن تيمية
منهج ابن تيمية:
وقد حفلت حياته -رحمه الله- بالجهود الكبيرة، إذ شهد عصره تفشي البدع والخرافات، وظهور التصوف، وانتشار الفلسفة، وعلم الكلام والمنطق، وتسلط المذاهب المخالفة لأهل السنة والجماعة وعقائد السلف، وجمود الفقهاء، ووجود التشيع، وقدوم التتار إلى الشام، وفوق ذلك كله غياب المنهج السلفي واندثاره؛ فشمر -رحمه الله- عن ساعديه بما أعطاه الله -تعالى- من قوة علم، وعلو همة، وشدة عزم؛ فتصدى لكل ذلك يواجه الحجة بالحجة، فيزيف الزائف منها، ويصحح ما فيه سوء فهم، ويجلي
من الحقائق ما غاب عن الأذهان بفهم عميق
وعقل راجح، حتى أقر له مخالفوه بذلك.
وقد أزال -رحمه الله- الركام عن منهج السلف الذي اندثر في الأمة في زمنه بفعل البدع، والفلسفة، وعلم الكلام والتصوف؛ فأحيا المنهج السلفي من جديد، ووازن به ما رآه في عصره من مخالفات، فكان دليله في إعادة الحق إلى نصابه، وإقامة الحجة من الكتاب والسنة ومخالفيه.
إن كثرة "خصوم ابن تيمية" تعطينا الدليل على تمكن الشيخ وغزارة علومه. وتعدد الميادين التي خاضها في سبيل إحياء المذهب السلفي أغضبت الكثيرين منه؛ فخاض معارك ضارية ضد خصوم أقوياء، وقد قاده ذلك إلى أن يسجن بـ"قلعة القاهرة"، ثم "الإسكندرية"، كما سجن بـ"قلعة دمشق" مرتين وتوفي بها سـ728ـنة هـ، وهذا يدل على شدة المعارك التي خاضها، وعجز خصومه عن مواجهته بالحجة، وتظهر السبب وراء شدة كتاباته ضد مخالفيه من المنحرفين عن منهج السلف.
لقد استوعب "ابن تيمية" نظريات وآراء مخالفيه، كما أحاط تمامًا بالكتاب والسنة، ثم جعل نصوص الكتاب والسنة هي ميزانه الذي يزن به الأفكار والنظريات، وصاغ منهجه على ذلك؛ لذا لم يُضعِّف قولاً أو ينصر رأيًا على آخر إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول د/ عبد الرحمن بن زيد في كتابه (السلفية وقضايا العصر) ص:48: "لهذا تلاحظ سيطرة النصوص على فكر ابن تيمية سيطرة دائمة، إنه يدور في دائرتها ويصطبغ بها مذهبه وفقهه وآراؤه كلها".
فلم يترك "ابن تيمية" -رحمه الله- ناحية من نواحي الدين إلا وعالجها في كتاباته، وأظهر رأي أهل السنة والجماعة فيها بعد استعراض حجج المخالفين وبسط ردود أهل السنة عليها، وقد استطاع "ابن تيمية" بهذا النهج أن يثبت بجلاء أن أهل السنة والجماعة أهل نظر ودراية إلى جانب أنهم أهل نقل ورواية، وأن آرائهم أصوب من آراء المتكلمين؛ لأنها توافق العقل والفهم السليم، إلى جانب أنها ميراث النبوة والوحي.
لقد نجح ابن تيمية في التأكيد على أن في الكتاب والسنة عامة مسائل أصول الدين من التوحيد والنبوة والصفات والقدر وغيرها، وأن آيات الله السمعية توافق الآيات العقلية ولا تعارض بينها.
ابن تيمية والتأويل:
فالتأويل المذموم هو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح بغير دليل معتبر، وقد اعتمد المتكلمون على هذا التأويل المذموم في تحريف آيات الأسماء والصفات بدعوى مخالفتها للعقل، فينبغي تأولها لتوافق ما يقتضيه العقل، وهذا المسلك يخالف ما كان عليه سلف الأمة في قضية الأسماء والصفات، إذ أنهم تحاكموا فيها إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وطوعوا لها المفاهيم العقلية، ولم يثبت عن أحد منهم أنه عارض النصوص بعقله.
وقد ألف ابن تيمية في بيان قضية الأسماء والصفات عند السلف العديد من الكتب، وجمع نقولاتهم فيها نابذاً لكلام الخلف، ومن أشهر مصنفاته في ذلك (العقيدة الواسطية)، حيث صرح بمعتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، وبما وصف به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربه في الأحاديث الصحيحة التي تلقاها أهل العلم بالقبول، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فهم بذلك وسط بين أهل التعطيل والتأويل، وبين أهل التمثيل والتشبيه.
وقد هاجم ابن تيمية المعتزلة، والأشاعرة، والباطنية؛ لصرفهم النصوص الشرعية عن ظواهرها، وبين أن كل صرف للنصوص عن ظواهرها خلاف ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن تبعهم، وأن سبيل التلقي في هذه القضية هو الكتاب والسنة على طريقة السلف؛ لذا وجب الكف عن التأويل، وبيَّن -رحمه الله- أن هذا إجماع السلف الذي لا يجوز مخالفته، وهذا الإجماع هو حجة على من بعدهم.
وعليه فالتأويل للأسماء والصفات بدعة، وبين أن مذهب السلف تفويض الكيفية مع إثبات المعنى، وأن من نسب إليهم تفويض المعنى أو زعم أن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية فقد جهل مذهب السلف، ولا تخلو مؤلفات وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية عن إجلاء هذه القضية بما لا يدع مجالاً للبس فيها، ومن طالع مصنفاته تبين له ذلك بوضوح.
ابن تيمية وعلم الكلام:
رفض أئمة السلف الخوض في علم الكلام ونبذوا أصحابه، وحذروا منهم، ولم يتعرضوا لهم؛ فلما اشتد منهج المعتزلة وصار له أنصاره واجههم أهل السنة بمنهجهم السلفي المبني على الاستدلال بالكتاب والسنة بفهم الصحابة والتابعين، وظهر أئمة المذهب الأشعري بمنهج رأوه وسطـًا بين منهج السلف ومنهج المعتزلة يجمع بين نصرة عقائد السلف بمنهج المتكلمين، فلم يسلم الأشاعرة من التأويل للنصوص مخالفين بذلك السلف، وقد واجه "ابن تيمية" الفريقين بنقد منهجهم القائم على تقديم آرائهم التي فهموها بعقولهم وقدموها على الأدلة النقلية؛ فألف (نقض المنطق) "الرد على المنطقيين"، وألف (درء تعارض العقل والنقل) (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، وغيرها من التصانيف.
وبيَّن "ابن تيمية" أن تأويلات هؤلاء من جنس تأويلات القدامى من المتأولين القائلين بخلق القرآن، وأن أهل الكلام لا يزالون مختلفين، واختلافهم من الاختلاف المذموم، وأما السلف فلا يوجد فيهم ذلك؛ ولهذا صرح العديد من أئمة المتكلمين في أواخر حياتهم أنهم لم يخرجوا من دراسة علم الكلام إلا بالقيل والقال، وكثرة الآراء، ومنهم من ترك كل ذلك ورجع إلى دين العامة، قال الجويني: "لقد خضتُ في البحر الخضم، وخليتُ الإسلام ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وهاأنذا أموت على عقيدة أمي!!"، وذكر عن الشهرستاني والرازي ما يشبه ذلك؛ لذا لم يكن غريبًا أن يذكر الواحد من علماء الكلام في المسألة عدة أقوال ليس فيها قول السلف الذي هو الحق في المسألة؛ لأنه لا يعرفه، وإذا ذكرت له النصوص التي تعارض ما ذهب إليه تأولها تأويلاً.
يقول الرازي في أواخر حياته: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق القرآن".
يقول ابن تيمية في (نقض المنطق) ص47: "ومن العجب أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد، ليسوا أهل نظر واستدلال وأنهم ينكرون حجة العقل، وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم، فيقال لهم: ليس هذا بحق فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، في غير آية ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة، ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة من النظر والفكر والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ "النظر" و"الاستدلال"، ولفظ "الكلام"، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال".
ويقول ابن تيمية مبينـًا مكانة الدليل الشرعي وأنه لا يُعارَض بدليل عقلي، وذلك في كتابه (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) جـ1 ص116: "أن يقال كونه عقليـًا أو سمعيًا ليس هو صفة تقتضي مدحًا ولا ذمًا، ولا صحة ولا فسادًا، بل ذلك يبين الطريق الذي به علم؛ وهو السمع أو العقل، وإن كان السمع لابد معه من العقل، وكذلك كونه عقليًا ونقليًا، وأما كونه شرعيًا فلا يقابل بكونه عقليًا وإنما يقابل بكونه بدعيًا، إذ البدعة تقابل الشرعة، وكونه شرعيًا صفة مدح، وكونه بدعيًا صفة ذم، وما خالف الشريعة فهو باطل، ثم الشرعي قد يكون سمعيًا وقد يكون عقليًا؛ فإن كون الدليل شرعيًا يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع فإما أن يكون معلومًا بالعقل أيضًا، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه؛ فيكون شرعيًا عقليًا، وهذا كالأدلة التي نبه الله -تعالى- عليها في كتابه العزيز من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة علي توحيده وصدق رسله وإثبات صفاته، وعلي المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية.
وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعيًا سمعيًا، وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه؛ ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: "العقليات والسمعيات"، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة، وهذا غلط منهم، بل القرآن دل علي الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها، وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه كما قال -تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذِن فيه فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات، والشارع يحرم الدليل لكونه كذبًا في نفسه مثل:
أ- أن تكون إحدى مقدماته باطلة فإنه كذب والله يحرم الكذب، لا سيما الكذب عليه؛ كقوله -تعالى-: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [سورة الأعراف:169].
ب- ويحرمه لكون المتكلم به بلا علم، كما قال -تعالى-: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء: 36]، وقوله -تعالى-: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: 33].
ج- ويحرمه لكونه جدالاً في الحق بعد ما تبين، كقوله -تعالى-: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [سورة الأنفال: 6]، وقوله -تعالى-: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة الكهف: 56]". اهـ نقلاً من (قواعد المنهج السلفي) د/ مصطفى حلمي ط. دار الدعوة الثالثة ص:126-127.
وما قرره شيخ الإسلام فيما ذكرناه يبين المنهج بوضوح، وهو: "أن الدليل الشرعي لا يجوز معارضته بدليل عقلي، أو أن يقدم الدليل العقلي عليه".
ابن تيمية والصوفية:
نظر شيخ الإسلام ابن تيمية إلى التصوف على أنه نشأ بعد القرون الخيرية الأولى، وظهور سلطان الموالي من غير العرب خاصة الفرس، وبنيت الإرادات والعبادات، والأعمال من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على غير طريق النبوة، وأصبح المثل الأعلى هو الانقطاع عن الدنيا لعبادة الله -تعالى- ومناجاته، وانتهى الأمر بفكرة الحلول عند الحلاج، ووحدة الوجود عند ابن عربي.
ومع ذلك نرى ابن تيمية يثني على بعض الصوفية ممن رأى في طريقتهم التقيد بالكتاب والسنة كـ"الجنيد" و"الجيلاني"، وهذا من عدله وإنصافه -رحمه الله-، وتحامل على بعض الصوفية لما رأى منهم من الغلو في الصالحين وصرف العبادة للمقبورين، ووصف البعض منهم بالكفر والإلحاد كابن عربي، ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية تبين جهوده الإصلاحية في مواجهة التصوف، فبين رأيه في الولاية والأولياء كما في كتابه (الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن).
وأوضح رأيه في قضية التوسل كما في كتاب (الاستغاثة) ورده على السبكي، وبيَّن الزيارة الشرعية والزيارة البدعية للقبور كما في كتابه (الزيارة)؛ إذ أن ابن تيمية لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع، بل حض عليها، وكتابات ابن تيمية في هذه القضية ونقولاته عن السلف تبين مدى إحاطته بالنصوص الشرعية وأقوال أهل العلم، وإنه لم يخرج عنها، بل التزم بما التزموا به.
وتتجلى عدالة ابن تيمية ودقة نقده في تقييمه لـ"أبي حامد الغزالي" أحد رموز التصوف في عصره، فالغزالي خلط علومه بالفلسفة وعلم الكلام، واختار التصوف طريقـًا ومنهجًا، ولكنه نبه إلي انحرافات الفلاسفة وتصدى لمذهب الباطنية، وانتقد غلاة الصوفية كالحلاج، وأبطل دعوى سقوط التكاليف عند الإباحية من المتصوفة.
يقول د. مصطفى حلمي في (قواعد المنهج السلفي): "يرى شيخ الإسلام أن الإمام الغزالي استخدم العبارات الإسلامية النبوية في التعبير عن مقاصد الفلاسفة، وبمنهج تحليلي لمضمون كتبه يؤصل نظرياته وينقدها، فيرجع علم المعاملة والأمر والنهي إلى الصوفية والفقهاء، وعلم المكاشفة تتعدد مصادره، فتارة يسلك طريق الفلاسفة، وتارة المتكلمين الجهمية، وتارة أهل الحديث، وتارة يطعن على هؤلاء، ويذكر أقوالا مغايرة" ط. دار الدعوة الثالثة: ص147.
ويقول في موضع آخر: "وعندما سئل عن إحياء علوم الدين فأجاب بأنه تبع كتاب قوت القلوب -"من تأليف أبي طالب المكي الصوفي"- فيما يذكره من أعمال القلوب"، "ولكن أبا طالب صاحب كتاب قوت القلوب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد، وأجود تحقيقـًا، وأبعد عن البدعة على أن في قوت القلوب أحاديث موضوعة، وضعيفة، وأشياء كثيرة مردودة"، "والإحياء فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا: أمرضه الشفاء، يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة، وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة"، "لهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه" المصدر السابق: ص148-149.
ابن تيمية والشيعة:
أما الشيعة الرافضة فقد تصدى لهم ابن تيمية خاصة غلاتهم، فالباطنية من بني عبيد بن ميمون القداح الغلاة فقد برهن ابن تيمية على كذبهم بما اتفق عليه أهل المعرفة بالأنساب من أن جدهم كان يهوديًا ربيبًا لمجوسي، وهو وأهل بيته من أئمة الإسماعيلية الملاحدة وصفهم العلماء ومنعهم الغزالي بأن: "ظاهر مذهبهم الرفض والتشيع، وباطنه الكفر المحض"، وقد مكنت معرفة ابن تيمية بالتاريخ أن يكون على دراية بغلاة الشيعة الفاطمية، والإحاطة بأخبارهم وأسرارهم.
أما الشيعة الإمامية من الإثني عشرية فألف في الرد عليهم كتابه: (منهاج السنة النبوية)، وفيه الرد على كتاب "منهاج الكرامة" لابن المطهر الحلي، حيث أوضح فيه موقف أهل السنة والجماعة من قضية الإمامة، وبيَّن فساد مذهب الإثني عشرية في هذه المسألة، حيث أسهب في النقد، خاصة فيما يدعونه من عصمة الأئمة وحصر الأئمة في عدد معين ثابت، وأشار إلى غلوهم في الأئمة وتعظيمهم للمشاهد والأضرحة مع تعطيلهم للمساجد، كما أشار إلى اتباع متأخري الإثني عشرية للمعتزلة في العقليات، وأودع ابن تيمية معالم النظرية السياسية في الإسلام في كتابه (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) استكمالاً لقضية الإمامة كعقد مبايعة بين الإمام وأهل الحل والعقد في الأمة.
ابن تيمية والتعصب المذهبي:
وكما انتقد ابن تيمية المتكلمين من الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة انتقد كذلك المقلدين من الفقهاء أتباع المذاهب، الذين يخالفون ما صح من كتاب الله -تعالى- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- تقليدًا لأئمتهم.
لقد بلغ ابن تيمية أهلية النظر في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بما حصَّله من أدوات الاجتهاد، وبما استوعبه من المذاهب والآراء؛ لذا نراه يخالف المذاهب الأربعة أحيانـًا، وبيَّن دليله على ما قدم من الآراء، ولام ابن تيمية أولئك الذين يتبعون الأقوال من غير معرفة أدلتها ووجه الحق فيها.
وحكى عن أئمة المذاهب الأربعة أنهم نهوا عن اتباع آراءهم إن كانت مخالفة لنصوص الكتاب والسنة، وبيَّن -رحمه الله- أن من وقع منه ما يخالف الكتاب أو السنة الصحيحة من الأئمة فله أعذار عديدة قوية ترفع الملام عنه، وأن الواجب تقديرهم وتوقيرهم، والإقرار بفضلهم، دون التعصب لأقوالهم، وله في ذلك رسالة باسم (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، فابن تيمية في الفقه كما في الاعتقاد يدور مع النص الشرعي حيث دار، يفتي بما يقتضيه، ولا يأخذ بما يخالفه؛ لذا يقول في الفتاوى: "إن أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم ليست حجة لازمة، ولا إجماعًا باتفاق المسلمين، بل قد ثبت أنهم نهوا الناس عن تقليدهم إذا رأوا قولاً في الكتاب والسنة أقوى مما قالوا به، بل إنهم أمروا أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة" (مجموع الفتاوى: ج20/10).
والتفقه في الدين يعني معرفة الأحكام بأدلتها، والاجتهاد يقبل التجزئة؛ فمن علم مسألة فهو بها عالم، ولا يجوز تضييق رحمة الله -تعالى- بالقول بغلق باب الاجتهاد لمن توفرت له أسبابه وأدواته، وبالإضافة إلى كل ما سبق من مجهوداته العلمية والإصلاحية فقد شارك في الجهاد في سبيل الله -تعالى-، فقد ولد ابن تيمية بعد تدمير التتار لبغداد بخمس سنوات، ودخولهم الشام، وعاصر حكم المماليك على مصر والشام في حكم الناصر محمد بن قلاوون، الذي واصل جهود الظاهر بيبرس صاحب الانتصار على التتار في عين جالوت، ومن مظاهر شجاعته الفائقة مقابلته للسلطان غازان "سلطان التتار"، وإقدامه عليه ومواجهته له، وخرج إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق ومشاركة المعسكر الشامي في مواجهة التتار.
وشارك ابن تيمية في هذه المعركة "معركة شقحب" سنة 702هـ، فقتل من التتار خلقـًا كثيرًا، كما كان لابن تيمية -رحمه الله- مجهوداته العملية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجمع -رحمه الله تعالى- بين العلم والعمل، والعبادة والدعوة، والنصح للأمة والجهاد معها -رحمه الله رحمة واسعة- وجزاه بفضله عن جهوده خير الجزاء.
كتبه/ علاء بكر
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف
وقد حفلت حياته -رحمه الله- بالجهود الكبيرة، إذ شهد عصره تفشي البدع والخرافات، وظهور التصوف، وانتشار الفلسفة، وعلم الكلام والمنطق، وتسلط المذاهب المخالفة لأهل السنة والجماعة وعقائد السلف، وجمود الفقهاء، ووجود التشيع، وقدوم التتار إلى الشام، وفوق ذلك كله غياب المنهج السلفي واندثاره؛ فشمر -رحمه الله- عن ساعديه بما أعطاه الله -تعالى- من قوة علم، وعلو همة، وشدة عزم؛ فتصدى لكل ذلك يواجه الحجة بالحجة، فيزيف الزائف منها، ويصحح ما فيه سوء فهم، ويجلي
من الحقائق ما غاب عن الأذهان بفهم عميق
وعقل راجح، حتى أقر له مخالفوه بذلك.
وقد أزال -رحمه الله- الركام عن منهج السلف الذي اندثر في الأمة في زمنه بفعل البدع، والفلسفة، وعلم الكلام والتصوف؛ فأحيا المنهج السلفي من جديد، ووازن به ما رآه في عصره من مخالفات، فكان دليله في إعادة الحق إلى نصابه، وإقامة الحجة من الكتاب والسنة ومخالفيه.
إن كثرة "خصوم ابن تيمية" تعطينا الدليل على تمكن الشيخ وغزارة علومه. وتعدد الميادين التي خاضها في سبيل إحياء المذهب السلفي أغضبت الكثيرين منه؛ فخاض معارك ضارية ضد خصوم أقوياء، وقد قاده ذلك إلى أن يسجن بـ"قلعة القاهرة"، ثم "الإسكندرية"، كما سجن بـ"قلعة دمشق" مرتين وتوفي بها سـ728ـنة هـ، وهذا يدل على شدة المعارك التي خاضها، وعجز خصومه عن مواجهته بالحجة، وتظهر السبب وراء شدة كتاباته ضد مخالفيه من المنحرفين عن منهج السلف.
لقد استوعب "ابن تيمية" نظريات وآراء مخالفيه، كما أحاط تمامًا بالكتاب والسنة، ثم جعل نصوص الكتاب والسنة هي ميزانه الذي يزن به الأفكار والنظريات، وصاغ منهجه على ذلك؛ لذا لم يُضعِّف قولاً أو ينصر رأيًا على آخر إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول د/ عبد الرحمن بن زيد في كتابه (السلفية وقضايا العصر) ص:48: "لهذا تلاحظ سيطرة النصوص على فكر ابن تيمية سيطرة دائمة، إنه يدور في دائرتها ويصطبغ بها مذهبه وفقهه وآراؤه كلها".
فلم يترك "ابن تيمية" -رحمه الله- ناحية من نواحي الدين إلا وعالجها في كتاباته، وأظهر رأي أهل السنة والجماعة فيها بعد استعراض حجج المخالفين وبسط ردود أهل السنة عليها، وقد استطاع "ابن تيمية" بهذا النهج أن يثبت بجلاء أن أهل السنة والجماعة أهل نظر ودراية إلى جانب أنهم أهل نقل ورواية، وأن آرائهم أصوب من آراء المتكلمين؛ لأنها توافق العقل والفهم السليم، إلى جانب أنها ميراث النبوة والوحي.
لقد نجح ابن تيمية في التأكيد على أن في الكتاب والسنة عامة مسائل أصول الدين من التوحيد والنبوة والصفات والقدر وغيرها، وأن آيات الله السمعية توافق الآيات العقلية ولا تعارض بينها.
ابن تيمية والتأويل:
فالتأويل المذموم هو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح بغير دليل معتبر، وقد اعتمد المتكلمون على هذا التأويل المذموم في تحريف آيات الأسماء والصفات بدعوى مخالفتها للعقل، فينبغي تأولها لتوافق ما يقتضيه العقل، وهذا المسلك يخالف ما كان عليه سلف الأمة في قضية الأسماء والصفات، إذ أنهم تحاكموا فيها إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وطوعوا لها المفاهيم العقلية، ولم يثبت عن أحد منهم أنه عارض النصوص بعقله.
وقد ألف ابن تيمية في بيان قضية الأسماء والصفات عند السلف العديد من الكتب، وجمع نقولاتهم فيها نابذاً لكلام الخلف، ومن أشهر مصنفاته في ذلك (العقيدة الواسطية)، حيث صرح بمعتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، وبما وصف به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربه في الأحاديث الصحيحة التي تلقاها أهل العلم بالقبول، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فهم بذلك وسط بين أهل التعطيل والتأويل، وبين أهل التمثيل والتشبيه.
وقد هاجم ابن تيمية المعتزلة، والأشاعرة، والباطنية؛ لصرفهم النصوص الشرعية عن ظواهرها، وبين أن كل صرف للنصوص عن ظواهرها خلاف ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن تبعهم، وأن سبيل التلقي في هذه القضية هو الكتاب والسنة على طريقة السلف؛ لذا وجب الكف عن التأويل، وبيَّن -رحمه الله- أن هذا إجماع السلف الذي لا يجوز مخالفته، وهذا الإجماع هو حجة على من بعدهم.
وعليه فالتأويل للأسماء والصفات بدعة، وبين أن مذهب السلف تفويض الكيفية مع إثبات المعنى، وأن من نسب إليهم تفويض المعنى أو زعم أن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية فقد جهل مذهب السلف، ولا تخلو مؤلفات وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية عن إجلاء هذه القضية بما لا يدع مجالاً للبس فيها، ومن طالع مصنفاته تبين له ذلك بوضوح.
ابن تيمية وعلم الكلام:
رفض أئمة السلف الخوض في علم الكلام ونبذوا أصحابه، وحذروا منهم، ولم يتعرضوا لهم؛ فلما اشتد منهج المعتزلة وصار له أنصاره واجههم أهل السنة بمنهجهم السلفي المبني على الاستدلال بالكتاب والسنة بفهم الصحابة والتابعين، وظهر أئمة المذهب الأشعري بمنهج رأوه وسطـًا بين منهج السلف ومنهج المعتزلة يجمع بين نصرة عقائد السلف بمنهج المتكلمين، فلم يسلم الأشاعرة من التأويل للنصوص مخالفين بذلك السلف، وقد واجه "ابن تيمية" الفريقين بنقد منهجهم القائم على تقديم آرائهم التي فهموها بعقولهم وقدموها على الأدلة النقلية؛ فألف (نقض المنطق) "الرد على المنطقيين"، وألف (درء تعارض العقل والنقل) (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، وغيرها من التصانيف.
وبيَّن "ابن تيمية" أن تأويلات هؤلاء من جنس تأويلات القدامى من المتأولين القائلين بخلق القرآن، وأن أهل الكلام لا يزالون مختلفين، واختلافهم من الاختلاف المذموم، وأما السلف فلا يوجد فيهم ذلك؛ ولهذا صرح العديد من أئمة المتكلمين في أواخر حياتهم أنهم لم يخرجوا من دراسة علم الكلام إلا بالقيل والقال، وكثرة الآراء، ومنهم من ترك كل ذلك ورجع إلى دين العامة، قال الجويني: "لقد خضتُ في البحر الخضم، وخليتُ الإسلام ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وهاأنذا أموت على عقيدة أمي!!"، وذكر عن الشهرستاني والرازي ما يشبه ذلك؛ لذا لم يكن غريبًا أن يذكر الواحد من علماء الكلام في المسألة عدة أقوال ليس فيها قول السلف الذي هو الحق في المسألة؛ لأنه لا يعرفه، وإذا ذكرت له النصوص التي تعارض ما ذهب إليه تأولها تأويلاً.
يقول الرازي في أواخر حياته: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق القرآن".
يقول ابن تيمية في (نقض المنطق) ص47: "ومن العجب أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد، ليسوا أهل نظر واستدلال وأنهم ينكرون حجة العقل، وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم، فيقال لهم: ليس هذا بحق فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، في غير آية ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة، ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة من النظر والفكر والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ "النظر" و"الاستدلال"، ولفظ "الكلام"، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال".
ويقول ابن تيمية مبينـًا مكانة الدليل الشرعي وأنه لا يُعارَض بدليل عقلي، وذلك في كتابه (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) جـ1 ص116: "أن يقال كونه عقليـًا أو سمعيًا ليس هو صفة تقتضي مدحًا ولا ذمًا، ولا صحة ولا فسادًا، بل ذلك يبين الطريق الذي به علم؛ وهو السمع أو العقل، وإن كان السمع لابد معه من العقل، وكذلك كونه عقليًا ونقليًا، وأما كونه شرعيًا فلا يقابل بكونه عقليًا وإنما يقابل بكونه بدعيًا، إذ البدعة تقابل الشرعة، وكونه شرعيًا صفة مدح، وكونه بدعيًا صفة ذم، وما خالف الشريعة فهو باطل، ثم الشرعي قد يكون سمعيًا وقد يكون عقليًا؛ فإن كون الدليل شرعيًا يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع فإما أن يكون معلومًا بالعقل أيضًا، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه؛ فيكون شرعيًا عقليًا، وهذا كالأدلة التي نبه الله -تعالى- عليها في كتابه العزيز من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة علي توحيده وصدق رسله وإثبات صفاته، وعلي المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية.
وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعيًا سمعيًا، وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه؛ ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: "العقليات والسمعيات"، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة، وهذا غلط منهم، بل القرآن دل علي الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها، وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه كما قال -تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذِن فيه فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات، والشارع يحرم الدليل لكونه كذبًا في نفسه مثل:
أ- أن تكون إحدى مقدماته باطلة فإنه كذب والله يحرم الكذب، لا سيما الكذب عليه؛ كقوله -تعالى-: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [سورة الأعراف:169].
ب- ويحرمه لكون المتكلم به بلا علم، كما قال -تعالى-: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء: 36]، وقوله -تعالى-: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: 33].
ج- ويحرمه لكونه جدالاً في الحق بعد ما تبين، كقوله -تعالى-: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [سورة الأنفال: 6]، وقوله -تعالى-: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة الكهف: 56]". اهـ نقلاً من (قواعد المنهج السلفي) د/ مصطفى حلمي ط. دار الدعوة الثالثة ص:126-127.
وما قرره شيخ الإسلام فيما ذكرناه يبين المنهج بوضوح، وهو: "أن الدليل الشرعي لا يجوز معارضته بدليل عقلي، أو أن يقدم الدليل العقلي عليه".
ابن تيمية والصوفية:
نظر شيخ الإسلام ابن تيمية إلى التصوف على أنه نشأ بعد القرون الخيرية الأولى، وظهور سلطان الموالي من غير العرب خاصة الفرس، وبنيت الإرادات والعبادات، والأعمال من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على غير طريق النبوة، وأصبح المثل الأعلى هو الانقطاع عن الدنيا لعبادة الله -تعالى- ومناجاته، وانتهى الأمر بفكرة الحلول عند الحلاج، ووحدة الوجود عند ابن عربي.
ومع ذلك نرى ابن تيمية يثني على بعض الصوفية ممن رأى في طريقتهم التقيد بالكتاب والسنة كـ"الجنيد" و"الجيلاني"، وهذا من عدله وإنصافه -رحمه الله-، وتحامل على بعض الصوفية لما رأى منهم من الغلو في الصالحين وصرف العبادة للمقبورين، ووصف البعض منهم بالكفر والإلحاد كابن عربي، ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية تبين جهوده الإصلاحية في مواجهة التصوف، فبين رأيه في الولاية والأولياء كما في كتابه (الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن).
وأوضح رأيه في قضية التوسل كما في كتاب (الاستغاثة) ورده على السبكي، وبيَّن الزيارة الشرعية والزيارة البدعية للقبور كما في كتابه (الزيارة)؛ إذ أن ابن تيمية لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع، بل حض عليها، وكتابات ابن تيمية في هذه القضية ونقولاته عن السلف تبين مدى إحاطته بالنصوص الشرعية وأقوال أهل العلم، وإنه لم يخرج عنها، بل التزم بما التزموا به.
وتتجلى عدالة ابن تيمية ودقة نقده في تقييمه لـ"أبي حامد الغزالي" أحد رموز التصوف في عصره، فالغزالي خلط علومه بالفلسفة وعلم الكلام، واختار التصوف طريقـًا ومنهجًا، ولكنه نبه إلي انحرافات الفلاسفة وتصدى لمذهب الباطنية، وانتقد غلاة الصوفية كالحلاج، وأبطل دعوى سقوط التكاليف عند الإباحية من المتصوفة.
يقول د. مصطفى حلمي في (قواعد المنهج السلفي): "يرى شيخ الإسلام أن الإمام الغزالي استخدم العبارات الإسلامية النبوية في التعبير عن مقاصد الفلاسفة، وبمنهج تحليلي لمضمون كتبه يؤصل نظرياته وينقدها، فيرجع علم المعاملة والأمر والنهي إلى الصوفية والفقهاء، وعلم المكاشفة تتعدد مصادره، فتارة يسلك طريق الفلاسفة، وتارة المتكلمين الجهمية، وتارة أهل الحديث، وتارة يطعن على هؤلاء، ويذكر أقوالا مغايرة" ط. دار الدعوة الثالثة: ص147.
ويقول في موضع آخر: "وعندما سئل عن إحياء علوم الدين فأجاب بأنه تبع كتاب قوت القلوب -"من تأليف أبي طالب المكي الصوفي"- فيما يذكره من أعمال القلوب"، "ولكن أبا طالب صاحب كتاب قوت القلوب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد، وأجود تحقيقـًا، وأبعد عن البدعة على أن في قوت القلوب أحاديث موضوعة، وضعيفة، وأشياء كثيرة مردودة"، "والإحياء فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا: أمرضه الشفاء، يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة، وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة"، "لهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه" المصدر السابق: ص148-149.
ابن تيمية والشيعة:
أما الشيعة الرافضة فقد تصدى لهم ابن تيمية خاصة غلاتهم، فالباطنية من بني عبيد بن ميمون القداح الغلاة فقد برهن ابن تيمية على كذبهم بما اتفق عليه أهل المعرفة بالأنساب من أن جدهم كان يهوديًا ربيبًا لمجوسي، وهو وأهل بيته من أئمة الإسماعيلية الملاحدة وصفهم العلماء ومنعهم الغزالي بأن: "ظاهر مذهبهم الرفض والتشيع، وباطنه الكفر المحض"، وقد مكنت معرفة ابن تيمية بالتاريخ أن يكون على دراية بغلاة الشيعة الفاطمية، والإحاطة بأخبارهم وأسرارهم.
أما الشيعة الإمامية من الإثني عشرية فألف في الرد عليهم كتابه: (منهاج السنة النبوية)، وفيه الرد على كتاب "منهاج الكرامة" لابن المطهر الحلي، حيث أوضح فيه موقف أهل السنة والجماعة من قضية الإمامة، وبيَّن فساد مذهب الإثني عشرية في هذه المسألة، حيث أسهب في النقد، خاصة فيما يدعونه من عصمة الأئمة وحصر الأئمة في عدد معين ثابت، وأشار إلى غلوهم في الأئمة وتعظيمهم للمشاهد والأضرحة مع تعطيلهم للمساجد، كما أشار إلى اتباع متأخري الإثني عشرية للمعتزلة في العقليات، وأودع ابن تيمية معالم النظرية السياسية في الإسلام في كتابه (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) استكمالاً لقضية الإمامة كعقد مبايعة بين الإمام وأهل الحل والعقد في الأمة.
ابن تيمية والتعصب المذهبي:
وكما انتقد ابن تيمية المتكلمين من الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة انتقد كذلك المقلدين من الفقهاء أتباع المذاهب، الذين يخالفون ما صح من كتاب الله -تعالى- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- تقليدًا لأئمتهم.
لقد بلغ ابن تيمية أهلية النظر في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بما حصَّله من أدوات الاجتهاد، وبما استوعبه من المذاهب والآراء؛ لذا نراه يخالف المذاهب الأربعة أحيانـًا، وبيَّن دليله على ما قدم من الآراء، ولام ابن تيمية أولئك الذين يتبعون الأقوال من غير معرفة أدلتها ووجه الحق فيها.
وحكى عن أئمة المذاهب الأربعة أنهم نهوا عن اتباع آراءهم إن كانت مخالفة لنصوص الكتاب والسنة، وبيَّن -رحمه الله- أن من وقع منه ما يخالف الكتاب أو السنة الصحيحة من الأئمة فله أعذار عديدة قوية ترفع الملام عنه، وأن الواجب تقديرهم وتوقيرهم، والإقرار بفضلهم، دون التعصب لأقوالهم، وله في ذلك رسالة باسم (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، فابن تيمية في الفقه كما في الاعتقاد يدور مع النص الشرعي حيث دار، يفتي بما يقتضيه، ولا يأخذ بما يخالفه؛ لذا يقول في الفتاوى: "إن أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم ليست حجة لازمة، ولا إجماعًا باتفاق المسلمين، بل قد ثبت أنهم نهوا الناس عن تقليدهم إذا رأوا قولاً في الكتاب والسنة أقوى مما قالوا به، بل إنهم أمروا أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة" (مجموع الفتاوى: ج20/10).
والتفقه في الدين يعني معرفة الأحكام بأدلتها، والاجتهاد يقبل التجزئة؛ فمن علم مسألة فهو بها عالم، ولا يجوز تضييق رحمة الله -تعالى- بالقول بغلق باب الاجتهاد لمن توفرت له أسبابه وأدواته، وبالإضافة إلى كل ما سبق من مجهوداته العلمية والإصلاحية فقد شارك في الجهاد في سبيل الله -تعالى-، فقد ولد ابن تيمية بعد تدمير التتار لبغداد بخمس سنوات، ودخولهم الشام، وعاصر حكم المماليك على مصر والشام في حكم الناصر محمد بن قلاوون، الذي واصل جهود الظاهر بيبرس صاحب الانتصار على التتار في عين جالوت، ومن مظاهر شجاعته الفائقة مقابلته للسلطان غازان "سلطان التتار"، وإقدامه عليه ومواجهته له، وخرج إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق ومشاركة المعسكر الشامي في مواجهة التتار.
وشارك ابن تيمية في هذه المعركة "معركة شقحب" سنة 702هـ، فقتل من التتار خلقـًا كثيرًا، كما كان لابن تيمية -رحمه الله- مجهوداته العملية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجمع -رحمه الله تعالى- بين العلم والعمل، والعبادة والدعوة، والنصح للأمة والجهاد معها -رحمه الله رحمة واسعة- وجزاه بفضله عن جهوده خير الجزاء.
كتبه/ علاء بكر
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف
الأربعاء، 19 سبتمبر 2012
ذكرتك
عندما أعجز عن سماع صوتك , وتعجز عيناي عن رؤياك , لا يعجز قلبي عن حبك , ومن أجل ذلك ذكرتك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم » .
تذكروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة) جامع الترمذي ٣٥٤٥
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم » .
تذكروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة) جامع الترمذي ٣٥٤٥
لا إله الا الله محمد رسول الله
نبذة من السيرة العطرة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
http://t.co/nWrpu6KN
#دفاعا_عن_نبينا_محمد_صلى_الله_عليه_وسلم #أفكار_لنصرة_النبي_المختار
الحمد لله
اختلف بنو إسرائيل . وحرفوا وبدلوا في عقيدتهم وشريعتهم فانطمس الحق وظهر الباطل وانتشر الظلم والفساد واحتاجت الأمة إلى دين يحق الحق ويمحق الباطل ويهدي الناس إلى الصراط المستقيم فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) النحل/64 .
أرسل الله جميع الأنبياء والرسل للدعوة إلى عبادة الله وحده , وإخراج الناس من الظلمات إلى النور فأولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) النحل/36 .
وآخر الأنبياء والرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده قال تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) الأحزاب/40 .
وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة كما قال سبحانه : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ًونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) سبأ/28 .
وقد أنزل الله على رسوله القرآن يهدي به الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم قال تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) إبراهيم/1 .
وقد ولد الرسول محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي بمكة عام الفيل الذي جاء أصحابه لهدم الكعبة فأبادهم الله وتوفي أبوه وهو في بطن أمه ولما ولد محمد أرضعته حليمة السعدية ثم زار أخواله في المدينة مع أمه آمنة بنت وهب وفي طريق العودة إلى مكة توفيت أمه بالأبواء وعمره ست سنين ثم كفله جده عبد المطلب فمات وعمر محمد ثمان سنين ثم كفله عمه أبو طالب يرعاه ويكرمه ويدافع عنه أكثر من أربعين سنة وتوفي أبو طالب ولم يؤمن بدين محمد خشية أن تعيره قريش بترك دين آبائه .
وكان محمد في صغره يرعى الغنم لأهل مكة ثم سافر إلى الشام بتجارة لخديجة بنت خويلد وربحت التجارة وأعجبت خديجة بخلقه وصدقه وأمانته فتزوجها وعمره خمس وعشرون سنة وعمرها أربعون سنة ولم يتزوج عليها حتى ماتت .
وقد أنبت الله محمداً صلى الله عليه وسلم نباتاً حسناً وأدبه فأحسن تأديبه ورباه وعلمه حتى كان أحسن قومه خَلقاً وخُلقاً وأعظمهم مروءة وأوسعهم حلماً وأصدقهم حديثاً وأحفظهم أمانة حتى سماه قومه بالأمين .
ثم حُبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء الأيام والليالي يتعبد فيه ويدعو ربه وأبغض الأوثان والخمور والرذائل فلم يلتفت إليها في حياته .
ولما بلغ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة شارك قريشاً في بناء الكعبة لما جرفتها السيول فلما تنازعوا في وضع الحجر الأسود حكموه في الأمر فدعا بثوب فوضع الحجر فيه ثم أمر رؤساء القبائل أن يأخذوا بأطرافه فرفعوه جميعاً ثم أخذه محمد فوضعه في مكانه وبنى عليه فرضي الجميع وانقطع النزاع .
وكان لأهل الجاهلية صفات حميدة كالكرم والوفاء والشجاعة وفيهم بقايا من دين إبراهيم كتعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة وإهداء البدن وإلى جانب هذا كانت لهم صفات وعادات ذميمة كالزنا , وشرب الخمور وأكل الربا وقتل البنات والظلم , وعبادة الأصنام .
وأول من غير دين إبراهيم ودعا إلى عبادة الأصنام عمرو بن لحي الخزاعي فقد جلب الأصنام إلى مكة وغيرها ودعا الناس إلى عبادتها ومنها ود , وسواع , ويغوث , ويعوق, ونسرا .
ثم اتخذ العرب أصناماً أخرى ومنها صنم مناة بقديد واللات بالطائف والعزى بوادي نخلة وهبل في جوف الكعبة وأصنام حول الكعبة وأصنام في بيوتهم واحتكم الناس إلى الكهان والعرافين والسحرة .
ولما انتشر الشرك والفساد بهذه الصورة بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون سنة يدعو الناس إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام فأنكرت عليه قريش ذلك وقالت : ( أجعل الآلهة ألهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) ص/5 .
وظلت هذه الأصنام تعبد من دون الله حتى بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتوحيد فكسرها وهدمها هو وأصحابه رضوان الله عليهم فظهر الحق وزهق الباطل : ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) الإسراء/81 .
وأول ما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء الذي كان يتعبد فيه حيث جاءه جبريل فأمره أن يقرأ فقال الرسول ما أنا بقارئ فكرر عليه وفي الثالثة قال له : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ) العلق/1-2-3 .
فرجع الرسول , وفؤاده يرجف , ودخل على زوجته خديجة ثم أخبرها وقال لقد خشيت على نفسي فطمأنته وقالت : ( والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم , وتحمل الكل , وتقرى الضيف , وتكسب المعدوم , وتعين على نوائب الحق ) ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر فلما أخبره بشره وقال له هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى وأوصاه بالصبر إذا آذاه قومه وأخرجوه .
ثم فتر الوحي مدة فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم فبينما هو يمشي يوماً إذ رأى الملك مرة أخرى بين السماء والأرض فرجع إلى منزله وتدثر فأنزل الله عليه : ( يا أيها المدثر ، قم فأنذر ) المدثر/1-2 , ثم تتابع الوحي بعد ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم .
أقام النبي في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعوا إلى عبادة الله وحده سراً ثم جهراً حيث أمره الله أن يصدع بالحق فدعاهم بلين ولطف من غير قتال فأنذر عشيرته الأقربين ثم أنذر قومه ثم أنذر من حولهم ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين . ثم قال سبحانه : ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) الحجر/94 .
وقد آمن بالرسول قلة من الأغنياء والأشراف والضعفاء والفقراء والعبيد رجالاً ونساءً وأوذي الجميع في دينهم فعُذِّبَ بعضهم وقتل بعضهم , وهاجر بعضهم إلى الحبشة فراراً من أذى قريش وأوذي معهم الرسول صلى الله عليه وسلم فصبر حتى أظهر الله دينه .
ولما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم خمسين سنة ومضى عشر سنوات من بعثته مات عمه أبو طالب الذي كان يحميه من أذى قريش ثم ماتت من بعده زوجته خديجة التي كانت تؤنسه فاشتد عليه البلاء من قومه وتجرؤا عليه وآذوه بصنوف الأذى وهو صابر محتسب . صلوات الله وسلامه عليه .
ولما اشتد عليه البلاء وتجرأت عليه قريش خرج إلى الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام فلم يجيبوه , بل آذوه ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه , فرجع إلى مكة وظل يدعوا الناس إلى الإسلام في الحج وغيره .
ثم أسرى الله برسوله ليلا ًمن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكباً على البراق بصحبة جبريل , فنزل وصلى بالأنبياء ثم عرج به إلى السماء الدنيا فرأى فيها آدم , وأرواح السعداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن شماله ثم عرج به إلى السماء الثانية فرأى فيها عيسى ويحيى ثم إلى الثالثة فرأى فيها يوسف ثم إلى الرابعة فرأى فيها إدريس ثم إلى الخامسة فرأى فيها هارون ثم إلى السادسة فرأى فيها موسى ثم إلى السابعة فرأى فيها إبراهيم ثم رفع إلى سدرة المنتهى ثم كلمه ربه فأكرمه وفرض عليه وعلى أمته خمسين في اليوم والليلة ثم خففها إلى خمس في العمل وخمسين في الأجر واستقرت الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة إكراماً منه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى مكة قبل الصبح فقص عليهم ما جرى له فصدقه المؤمنون وكذبه الكافرون : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) الإسراء/1 .
ثم هيأ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ينصره فالتقى في موسم الحج برهط من المدينة من الخزرج فأسلموا ثم رجعوا إلى المدينة , ونشروا فيها الإسلام فلما كان العام المقبل صاروا بضعة عشر فالتقى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلما انصرفوا بعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن , ويعلمهم الإسلام فأسلم على يديه خلق كثير , منهم زعماء الأوس سعد بن معاذ , وأسيد بن حضير .
فلما كان العام المقبل وجاء موسم الحج خرج منهم ما يزيد على سبعين رجلاً من الأوس والخزرج فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن هجره وآذاه أهل مكة , فواعدهم الرسول في إحدى ليالي التشريق عند العقبة فلما مضى ثلث الليل خرجوا للميعاد فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس ولم يؤمن إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه فتكلم العباس , والرسول , والقوم بكلام حسن ثم بايعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يهاجر إليهم في المدينة على أن يمنعوه , وينصروه ويدافعوا عنه , ولهم الجنة فبايعوه واحداً, واحدا ً, ثم انصرفوا ثم علمت بهم قريش فخرجوا في طلبهم , ولكن الله نجاهم منهم , وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلى حين : ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) الحج/40 .
ثم أمر الرسول أصحابه بالهجرة إلى المدينة فهاجروا أرسالاً إلا من حبسه المشركون ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله وأبو بكر وعلي فلما أحس المشركون بهجرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خافوا أن يلحق بهم فيشتد أمره فتآمروا على قتله فأخبر جبريل رسول الله بذلك فأمر الرسول علياً أن يبيت في فراشه , ويرد الودائع التي كانت عند الرسول صلى الله عليه وسلم لأهلها وبات المشركون عند باب الرسول ليقتلوه إذا خرج فخرج من بينهم وذهب إلى بيت أبي بكر بعد أن أنقذه الله من مكرهم وأنزل الله : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) الأنفال/30 .
ثم عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة إلى المدينة , فخرج هو وأبو بكر إلى غار ثور ومكثا فيه ثلاث ليال واستأجرا عبد الله بن أبي أريقط وكان مشركاً ليدلهما على الطريق , وسلماه راحلتيهما فذعرت قريش لما جرى وطلبتهما في كل مكان , ولكن الله حفظ رسوله فلما سكن الطلب عنهما , ارتحلا إلى المدينة فلما أيست منهما قريش بذلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما مائتين من الإبل فجد الناس في الطلب وفي الطريق إلى المدينة , علم بهما سراقة بن مالك وكان مشركاً فأرادهما فدعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه في الأرض فعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع , وطلب من الرسول أن يدعوا له ولا يضره فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم , فرجع سراقة , ورد الناس عنهما ثم أسلم بعد فتح مكة .
فلما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كبر المسلمون فرحاً بقدومه واستقبله الرجال والنساء والأطفال فرحين مستبشرين فنزل بقباء وبنى هو والمسلمون مسجد قباء وأقام بها بضع عشرة ليلة ثم ركب يوم الجمعة فصلاها في بني سالم بن عوف ثم ركب ناقته ودخل المدينة والناس محيطون به , آخذون بزمام ناقته لينزل عندهم , فيقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم دعوها فإنها مأمورة فسارت حتى بركت في موضع مسجده اليوم .
وهيأ الله لرسوله أن ينزل على أخواله قرب المسجد فسكن في منزل أبي أيوب الأنصاري , ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتي بأهله وبناته وأهل أبي بكر من مكة فجاءوا بهم إلى المدينة .
ثم شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء مسجده في المكان الذي بركت فيه الناقة وجعل قبلته إلى بيت المقدس وجعل عمده الجذوع وسقفه الجريد ثم حولت القبلة إلى الكعبة بعد بضعة عشر شهراً من مقدمه المدينة .
ثم آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ووادع الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود وكتب بينه وبينهم كتاباً على السلم والدفاع عن المدينة وأسلم حبر اليهود عبد الله بن سلام وأبى عامة اليهود إلا الكفر وفي تلك السنة تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها .
وفي السنة الثانية شرع الأذان وصرف الله القبلة إلى الكعبة ، وفرض صوم رمضان .
ولما استقر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وأيده الله بنصره والتف المهاجرون والأنصار حوله واجتمعت القلوب عليه عند ذلك رماه المشركون , واليهود والمنافقون عن قوس واحدة فآذوه وافتروا عليه وبارزوه بالمحاربة والله يأمره بالصبر و العفو والصفح فلما اشتد ظلمهم وتفاقم شرهم , أذن الله للمسلمين بالقتال , فنزل قوله تعالى : ( أذن للذين يُقاتِلون بأنهم ظُلموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير ) الحج/39 .
ثم فرض الّله على المسلمين قتال من قاتلهم فقال : ( و قاتلوا في سبيل الّله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الّله لا يحب المعتدين ) البقرة/190 .
ثم فرض الله عليهم قتال المشركين كافة فقال : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) التوبة/36 .
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله ورد كيد المعتدين ودفع الظلم عن المظلومين وأيده الله بنصره , حتى صار الدين كله لله فقاتل المشركين في بدر في السنة الثانية من الهجرة في رمضان فنصره الله عليهم وفرق جموعهم وفي السنة الثالثة غدر يهود بني قينقاع فقتلوا أحد المسلمين فأجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة إلى الشام ثم ثأرت قريش لقتلاها في بدر , فعسكرت حول أحد في شوال من السنة الثالثة ودارت المعركة وعصى الرماة أمر الرسول , فلم يتم النصر للمسلمين وانصرف المشركون إلى مكة ولم يدخلوا المدينة .
ثم غدر يهود بني النضير وهموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بإلقاء الحجر عليه فنجاه الله , ثم حاصرهم في السنة الرابعة وأجلاهم إلى خيبر .
وفي السنة الخامسة غزا الرسول صلى الله عليه وسلم بني المصطلق لرد عدوانهم , فانتصر عليهم وغنم الأموال والسبايا ثم سعى زعماء اليهود في تأليب الأحزاب على المسلمين للقضاء على الإسلام في عقر داره . فاجتمع حول المدينة المشركون والأحباش وغطفان اليهود ثم أحبط الله كيدهم ونصر رسوله والمؤمنين : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً ) الأحزاب/25 .
ثم حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة لغدرهم , ونقضهم العهد فنصره الله عليهم فقتل الرجال وسبى الذرية وغنم الأموال .
وفي السنة السادسة عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على زيارة البيت والطواف به فصده المشركون عنه ، فصالحهم في الحديبية على وقف القتال عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويختارون ما يريدون فدخل الناس في دين الله أفواجاً .
وفي السنة السابعة غزا الرسول خيبر للقضاء على زعماء اليهود الذين آذوا المسلمين ، فحاصرهم ونصره الله عليهم وغنم الأموال والأرض وكاتب ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام .
وفي السنة الثامنة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً بقيادة زيد بن حارثه لتأديب المعتدين ولكن الروم جمعوا جيشاً عظيماً فقتلوا قواد المسلمين وأنجى الله بقية المسلمين من شرهم .
ثم غدر كفار مكة فنقضوا العهد فتوجه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بجيش عظيم وفتح مكة ، وطهر بيته العتيق من الأصنام ، وولاية الكفار .
ثم كانت غزوة حنين في شوال من السنة الثامنة لرد عدوان ثقيف وهوازن فهزمهم الله وغنم المسلمون مغانم كثيرة ثم واصل الرسول صلى الله عليه وسلم مسيره إلى الطائف وحاصرها ، ولم يأذن الله بفتحها فدعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم وانصرف ، فأسلموا فيما بعد ثم رجع ووزع الغنائم ، ثم اعتمر هو وأصحابه ثم خرجوا إلى المدينة .
وفي السنة التاسعة كانت غزوة تبوك في زمان عسرة وشدة وحر شديد فسار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك لرد كيد الروم فعسكر هناك ، ولم يلق كيداً وصالح بعض القبائل ، وغنم ثم رجع إلى المدينة وهذه آخر غزوة غزاها عليه الصلاة و السلام وجاءت في تلك السنة وفود القبائل تريد الدخول في الإسلام و منها وفد تميم ووفد طيء ووفد عبد القيس ، ووفد بني حنيفة وكلهم أسلموا ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يحج بالناس في تلك السنة وبعث معه علياً رضي الله عنه وأمره أن يقرأ على الناس سورة براءة للبراءة من المشركين وأمره أن ينادي في الناس فقال علي يوم النحر : ( يا أيها الناس لا يدخل الجنة كافر ، و لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته ) .
وفي السنة العاشرة عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على الحج , و دعا الناس إلى ذلك فحج معه من المدينة وغيرها خلقٌ كثير فأحرم من ذي الحليفة , و وصل إلى مكة في ذي الحجة وطاف وسعى وعلم الناس مناسكهم وخطب الناس بعرفات خطبة عظيمة جامعة , قرر فيها الأحكام الإسلامية العادلة فقال : ( أيها الناس اسمعوا قولي , فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا , أيها الناس إن دماءكم , وأموالكم , وأعراضكم حرام عليكم , كحرمة يومكم هذا , في شهركم هذا , في بلدكم هذا , ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع , ودماء الجاهلية موضوعة , وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث , كان مسترضعاً في بني سعد , فقتلته هذيل . وربا الجاهلية موضوع , وأول ربا أضع ربا عباس بن عبد المطلب , فإنه موضوع كله , فاتقوا الله في النساء , فإنكم أخذتموهن بأمان الله , واستحللتم فروجهن بكلمة الله , ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه , فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح , ولهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف , وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله , وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون , قالوا نشهد أنك قد بلَّغت , وأديت , ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد , اللهم اشهد ثلاث مرات ) .
ولما أكمل الله هذا الدين , وتقررت أصوله , نزل عليه وهو بعرفات : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) المائدة/3 .
وتسمى هذه الحجة حجة الوداع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ودع فيها الناس , ولم يحج بعدها ثم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من حجه إلى المدينة .
وفي السنة الحادية عشرة في شهر صفر بدأ المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم ولما اشتد عليه الوجع أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلى بالناس وفي ربيع الأول , زاد عليه المرض فقبض صلوات الله وسلامه عليه ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة فحزن المسلمون لذلك حزناً شديداً ثم غُسل وصلى عليه المسلمون يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء ودفن في بيت عائشة والرسول قد مات ودينه باق إلى يوم القيامة .
ثم اختار المسلمون صاحبه في الغار ورفيقه في الهجرة أبا بكر رضي الله عنه خليفة لهم ثم تولى الخلافة من بعده عمر ثم عثمان ثم علي وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون المهديون رضوان الله عليهم أجمعين .
وقد امتنّ الله على رسوله محمد بنعم عظيمة وأوصاه بالأخلاق الكريمة كما قال سبحانه : ( ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى ، فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، وأما بنعمة ربك فحدث ) الضحى/6-11 .
وقد أكرم الله رسوله بأخلاق عظيمة لم تجتمع لأحدٍٍ غيره حتى أثنى عليه ربه بقوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) القلم/4 .
وبهذه الأخلاق الكريمة , والصفات الحميدة , استطاع عليه السلام أن يجمع النفوس ويؤلف القلوب بإذن ربه : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) آل عمران/159 .
وقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وأنزل عليه القرآن وأمره بالدعوة إلى الله كما قال سبحانه : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ) الأحزاب/46 .
وقد فضل الله رسوله محمداً على غيره من الأنبياء بست فضائل كما قال صلى الله عليه وسلم : ( فضلت على الأنبياء بست , أعطيت جوامع الكلم , ونصرت بالرعب , وأحلت لي الغنائم , وجعلت لي الأرض طهوراً و مسجداً , وأرسلت إلى الناس كافة , وختم بي النبيون ) . رواه مسلم/523 .
فيجب على جميع الناس الإيمان به , و اتباع شرعه , ليدخلوا جنة ربهم : ( ومن يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ) النساء/13 .
وقد أثنى الله على من يؤمن بالرسول من أهل الكتاب وبشرهم بالأجر مرتين كما قال سبحانه : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ، أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ) القصص/52 -54 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه و صدقه فله أجران . الخ ) .
ومن لم يؤمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر , والكافر جزاؤه النار كما قال سبحانه : ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً ) الفتح/13 , وقال عليه الصلاة و السلام : ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار ) . رواه مسلم/154 .
و الرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم إلا ما علمه الله ولا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً كما قال سبحانه : ( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلاَّ نذير وبشير لقوم يؤمنون ) الأعراف/188 .
وقد أرسله الله بالإسلام ليظهره على الدين كله : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ) الفتح/28 .
ومهمة الرسول هي إبلاغ ما أرسل به , والهداية بيد الله : ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ ) الشورى/48 .
ولما للرسول صلى الله عليه وسلم من فضل عظيم على البشرية , بدعوتها إلى هذا الدين وإخراجها من الظلمات إلى النور , فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر وأمرنا بالصلاة عليه في حالات كثيرة فقال سبحانه : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليماً ) الأحزاب/21 .
وقد جاهد النبي عليه الصلاة و السلام في سبيل نشر هذا الدين وجاهد أصحابه معه فعلينا الاقتداء به واتباع سنته و السير على هديه كما قال سبحانه : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيراً ) الأحزاب/21 .
والإسلام دين الفطرة و العدل دين ارتضاه الله للناس كافة وهو يشتمل على أصول و فروع و آداب و أخلاق و عبادات و معاملات ولن تسعد الأمة إلا باتباعه والعمل به ولن يقبل الله من الناس غيره كما قال سبحانه : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) آل عمران/85 .
اللهم صلّ على محمد , وعلى آل محمد , كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري .
http://www.islamqa.info/ar/ref/11575
http://t.co/nWrpu6KN
#دفاعا_عن_نبينا_محمد_صلى_الله_عليه_وسلم #أفكار_لنصرة_النبي_المختار
الحمد لله
اختلف بنو إسرائيل . وحرفوا وبدلوا في عقيدتهم وشريعتهم فانطمس الحق وظهر الباطل وانتشر الظلم والفساد واحتاجت الأمة إلى دين يحق الحق ويمحق الباطل ويهدي الناس إلى الصراط المستقيم فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) النحل/64 .
أرسل الله جميع الأنبياء والرسل للدعوة إلى عبادة الله وحده , وإخراج الناس من الظلمات إلى النور فأولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) النحل/36 .
وآخر الأنبياء والرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده قال تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) الأحزاب/40 .
وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة كما قال سبحانه : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ًونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) سبأ/28 .
وقد أنزل الله على رسوله القرآن يهدي به الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم قال تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) إبراهيم/1 .
وقد ولد الرسول محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي بمكة عام الفيل الذي جاء أصحابه لهدم الكعبة فأبادهم الله وتوفي أبوه وهو في بطن أمه ولما ولد محمد أرضعته حليمة السعدية ثم زار أخواله في المدينة مع أمه آمنة بنت وهب وفي طريق العودة إلى مكة توفيت أمه بالأبواء وعمره ست سنين ثم كفله جده عبد المطلب فمات وعمر محمد ثمان سنين ثم كفله عمه أبو طالب يرعاه ويكرمه ويدافع عنه أكثر من أربعين سنة وتوفي أبو طالب ولم يؤمن بدين محمد خشية أن تعيره قريش بترك دين آبائه .
وكان محمد في صغره يرعى الغنم لأهل مكة ثم سافر إلى الشام بتجارة لخديجة بنت خويلد وربحت التجارة وأعجبت خديجة بخلقه وصدقه وأمانته فتزوجها وعمره خمس وعشرون سنة وعمرها أربعون سنة ولم يتزوج عليها حتى ماتت .
وقد أنبت الله محمداً صلى الله عليه وسلم نباتاً حسناً وأدبه فأحسن تأديبه ورباه وعلمه حتى كان أحسن قومه خَلقاً وخُلقاً وأعظمهم مروءة وأوسعهم حلماً وأصدقهم حديثاً وأحفظهم أمانة حتى سماه قومه بالأمين .
ثم حُبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء الأيام والليالي يتعبد فيه ويدعو ربه وأبغض الأوثان والخمور والرذائل فلم يلتفت إليها في حياته .
ولما بلغ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة شارك قريشاً في بناء الكعبة لما جرفتها السيول فلما تنازعوا في وضع الحجر الأسود حكموه في الأمر فدعا بثوب فوضع الحجر فيه ثم أمر رؤساء القبائل أن يأخذوا بأطرافه فرفعوه جميعاً ثم أخذه محمد فوضعه في مكانه وبنى عليه فرضي الجميع وانقطع النزاع .
وكان لأهل الجاهلية صفات حميدة كالكرم والوفاء والشجاعة وفيهم بقايا من دين إبراهيم كتعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة وإهداء البدن وإلى جانب هذا كانت لهم صفات وعادات ذميمة كالزنا , وشرب الخمور وأكل الربا وقتل البنات والظلم , وعبادة الأصنام .
وأول من غير دين إبراهيم ودعا إلى عبادة الأصنام عمرو بن لحي الخزاعي فقد جلب الأصنام إلى مكة وغيرها ودعا الناس إلى عبادتها ومنها ود , وسواع , ويغوث , ويعوق, ونسرا .
ثم اتخذ العرب أصناماً أخرى ومنها صنم مناة بقديد واللات بالطائف والعزى بوادي نخلة وهبل في جوف الكعبة وأصنام حول الكعبة وأصنام في بيوتهم واحتكم الناس إلى الكهان والعرافين والسحرة .
ولما انتشر الشرك والفساد بهذه الصورة بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون سنة يدعو الناس إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام فأنكرت عليه قريش ذلك وقالت : ( أجعل الآلهة ألهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) ص/5 .
وظلت هذه الأصنام تعبد من دون الله حتى بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتوحيد فكسرها وهدمها هو وأصحابه رضوان الله عليهم فظهر الحق وزهق الباطل : ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) الإسراء/81 .
وأول ما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء الذي كان يتعبد فيه حيث جاءه جبريل فأمره أن يقرأ فقال الرسول ما أنا بقارئ فكرر عليه وفي الثالثة قال له : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ) العلق/1-2-3 .
فرجع الرسول , وفؤاده يرجف , ودخل على زوجته خديجة ثم أخبرها وقال لقد خشيت على نفسي فطمأنته وقالت : ( والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم , وتحمل الكل , وتقرى الضيف , وتكسب المعدوم , وتعين على نوائب الحق ) ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر فلما أخبره بشره وقال له هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى وأوصاه بالصبر إذا آذاه قومه وأخرجوه .
ثم فتر الوحي مدة فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم فبينما هو يمشي يوماً إذ رأى الملك مرة أخرى بين السماء والأرض فرجع إلى منزله وتدثر فأنزل الله عليه : ( يا أيها المدثر ، قم فأنذر ) المدثر/1-2 , ثم تتابع الوحي بعد ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم .
أقام النبي في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعوا إلى عبادة الله وحده سراً ثم جهراً حيث أمره الله أن يصدع بالحق فدعاهم بلين ولطف من غير قتال فأنذر عشيرته الأقربين ثم أنذر قومه ثم أنذر من حولهم ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين . ثم قال سبحانه : ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) الحجر/94 .
وقد آمن بالرسول قلة من الأغنياء والأشراف والضعفاء والفقراء والعبيد رجالاً ونساءً وأوذي الجميع في دينهم فعُذِّبَ بعضهم وقتل بعضهم , وهاجر بعضهم إلى الحبشة فراراً من أذى قريش وأوذي معهم الرسول صلى الله عليه وسلم فصبر حتى أظهر الله دينه .
ولما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم خمسين سنة ومضى عشر سنوات من بعثته مات عمه أبو طالب الذي كان يحميه من أذى قريش ثم ماتت من بعده زوجته خديجة التي كانت تؤنسه فاشتد عليه البلاء من قومه وتجرؤا عليه وآذوه بصنوف الأذى وهو صابر محتسب . صلوات الله وسلامه عليه .
ولما اشتد عليه البلاء وتجرأت عليه قريش خرج إلى الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام فلم يجيبوه , بل آذوه ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه , فرجع إلى مكة وظل يدعوا الناس إلى الإسلام في الحج وغيره .
ثم أسرى الله برسوله ليلا ًمن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكباً على البراق بصحبة جبريل , فنزل وصلى بالأنبياء ثم عرج به إلى السماء الدنيا فرأى فيها آدم , وأرواح السعداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن شماله ثم عرج به إلى السماء الثانية فرأى فيها عيسى ويحيى ثم إلى الثالثة فرأى فيها يوسف ثم إلى الرابعة فرأى فيها إدريس ثم إلى الخامسة فرأى فيها هارون ثم إلى السادسة فرأى فيها موسى ثم إلى السابعة فرأى فيها إبراهيم ثم رفع إلى سدرة المنتهى ثم كلمه ربه فأكرمه وفرض عليه وعلى أمته خمسين في اليوم والليلة ثم خففها إلى خمس في العمل وخمسين في الأجر واستقرت الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة إكراماً منه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى مكة قبل الصبح فقص عليهم ما جرى له فصدقه المؤمنون وكذبه الكافرون : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) الإسراء/1 .
ثم هيأ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ينصره فالتقى في موسم الحج برهط من المدينة من الخزرج فأسلموا ثم رجعوا إلى المدينة , ونشروا فيها الإسلام فلما كان العام المقبل صاروا بضعة عشر فالتقى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلما انصرفوا بعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن , ويعلمهم الإسلام فأسلم على يديه خلق كثير , منهم زعماء الأوس سعد بن معاذ , وأسيد بن حضير .
فلما كان العام المقبل وجاء موسم الحج خرج منهم ما يزيد على سبعين رجلاً من الأوس والخزرج فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن هجره وآذاه أهل مكة , فواعدهم الرسول في إحدى ليالي التشريق عند العقبة فلما مضى ثلث الليل خرجوا للميعاد فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس ولم يؤمن إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه فتكلم العباس , والرسول , والقوم بكلام حسن ثم بايعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يهاجر إليهم في المدينة على أن يمنعوه , وينصروه ويدافعوا عنه , ولهم الجنة فبايعوه واحداً, واحدا ً, ثم انصرفوا ثم علمت بهم قريش فخرجوا في طلبهم , ولكن الله نجاهم منهم , وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلى حين : ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) الحج/40 .
ثم أمر الرسول أصحابه بالهجرة إلى المدينة فهاجروا أرسالاً إلا من حبسه المشركون ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله وأبو بكر وعلي فلما أحس المشركون بهجرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خافوا أن يلحق بهم فيشتد أمره فتآمروا على قتله فأخبر جبريل رسول الله بذلك فأمر الرسول علياً أن يبيت في فراشه , ويرد الودائع التي كانت عند الرسول صلى الله عليه وسلم لأهلها وبات المشركون عند باب الرسول ليقتلوه إذا خرج فخرج من بينهم وذهب إلى بيت أبي بكر بعد أن أنقذه الله من مكرهم وأنزل الله : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) الأنفال/30 .
ثم عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة إلى المدينة , فخرج هو وأبو بكر إلى غار ثور ومكثا فيه ثلاث ليال واستأجرا عبد الله بن أبي أريقط وكان مشركاً ليدلهما على الطريق , وسلماه راحلتيهما فذعرت قريش لما جرى وطلبتهما في كل مكان , ولكن الله حفظ رسوله فلما سكن الطلب عنهما , ارتحلا إلى المدينة فلما أيست منهما قريش بذلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما مائتين من الإبل فجد الناس في الطلب وفي الطريق إلى المدينة , علم بهما سراقة بن مالك وكان مشركاً فأرادهما فدعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه في الأرض فعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع , وطلب من الرسول أن يدعوا له ولا يضره فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم , فرجع سراقة , ورد الناس عنهما ثم أسلم بعد فتح مكة .
فلما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كبر المسلمون فرحاً بقدومه واستقبله الرجال والنساء والأطفال فرحين مستبشرين فنزل بقباء وبنى هو والمسلمون مسجد قباء وأقام بها بضع عشرة ليلة ثم ركب يوم الجمعة فصلاها في بني سالم بن عوف ثم ركب ناقته ودخل المدينة والناس محيطون به , آخذون بزمام ناقته لينزل عندهم , فيقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم دعوها فإنها مأمورة فسارت حتى بركت في موضع مسجده اليوم .
وهيأ الله لرسوله أن ينزل على أخواله قرب المسجد فسكن في منزل أبي أيوب الأنصاري , ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتي بأهله وبناته وأهل أبي بكر من مكة فجاءوا بهم إلى المدينة .
ثم شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء مسجده في المكان الذي بركت فيه الناقة وجعل قبلته إلى بيت المقدس وجعل عمده الجذوع وسقفه الجريد ثم حولت القبلة إلى الكعبة بعد بضعة عشر شهراً من مقدمه المدينة .
ثم آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ووادع الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود وكتب بينه وبينهم كتاباً على السلم والدفاع عن المدينة وأسلم حبر اليهود عبد الله بن سلام وأبى عامة اليهود إلا الكفر وفي تلك السنة تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها .
وفي السنة الثانية شرع الأذان وصرف الله القبلة إلى الكعبة ، وفرض صوم رمضان .
ولما استقر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وأيده الله بنصره والتف المهاجرون والأنصار حوله واجتمعت القلوب عليه عند ذلك رماه المشركون , واليهود والمنافقون عن قوس واحدة فآذوه وافتروا عليه وبارزوه بالمحاربة والله يأمره بالصبر و العفو والصفح فلما اشتد ظلمهم وتفاقم شرهم , أذن الله للمسلمين بالقتال , فنزل قوله تعالى : ( أذن للذين يُقاتِلون بأنهم ظُلموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير ) الحج/39 .
ثم فرض الّله على المسلمين قتال من قاتلهم فقال : ( و قاتلوا في سبيل الّله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الّله لا يحب المعتدين ) البقرة/190 .
ثم فرض الله عليهم قتال المشركين كافة فقال : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) التوبة/36 .
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله ورد كيد المعتدين ودفع الظلم عن المظلومين وأيده الله بنصره , حتى صار الدين كله لله فقاتل المشركين في بدر في السنة الثانية من الهجرة في رمضان فنصره الله عليهم وفرق جموعهم وفي السنة الثالثة غدر يهود بني قينقاع فقتلوا أحد المسلمين فأجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة إلى الشام ثم ثأرت قريش لقتلاها في بدر , فعسكرت حول أحد في شوال من السنة الثالثة ودارت المعركة وعصى الرماة أمر الرسول , فلم يتم النصر للمسلمين وانصرف المشركون إلى مكة ولم يدخلوا المدينة .
ثم غدر يهود بني النضير وهموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بإلقاء الحجر عليه فنجاه الله , ثم حاصرهم في السنة الرابعة وأجلاهم إلى خيبر .
وفي السنة الخامسة غزا الرسول صلى الله عليه وسلم بني المصطلق لرد عدوانهم , فانتصر عليهم وغنم الأموال والسبايا ثم سعى زعماء اليهود في تأليب الأحزاب على المسلمين للقضاء على الإسلام في عقر داره . فاجتمع حول المدينة المشركون والأحباش وغطفان اليهود ثم أحبط الله كيدهم ونصر رسوله والمؤمنين : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً ) الأحزاب/25 .
ثم حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة لغدرهم , ونقضهم العهد فنصره الله عليهم فقتل الرجال وسبى الذرية وغنم الأموال .
وفي السنة السادسة عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على زيارة البيت والطواف به فصده المشركون عنه ، فصالحهم في الحديبية على وقف القتال عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويختارون ما يريدون فدخل الناس في دين الله أفواجاً .
وفي السنة السابعة غزا الرسول خيبر للقضاء على زعماء اليهود الذين آذوا المسلمين ، فحاصرهم ونصره الله عليهم وغنم الأموال والأرض وكاتب ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام .
وفي السنة الثامنة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً بقيادة زيد بن حارثه لتأديب المعتدين ولكن الروم جمعوا جيشاً عظيماً فقتلوا قواد المسلمين وأنجى الله بقية المسلمين من شرهم .
ثم غدر كفار مكة فنقضوا العهد فتوجه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بجيش عظيم وفتح مكة ، وطهر بيته العتيق من الأصنام ، وولاية الكفار .
ثم كانت غزوة حنين في شوال من السنة الثامنة لرد عدوان ثقيف وهوازن فهزمهم الله وغنم المسلمون مغانم كثيرة ثم واصل الرسول صلى الله عليه وسلم مسيره إلى الطائف وحاصرها ، ولم يأذن الله بفتحها فدعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم وانصرف ، فأسلموا فيما بعد ثم رجع ووزع الغنائم ، ثم اعتمر هو وأصحابه ثم خرجوا إلى المدينة .
وفي السنة التاسعة كانت غزوة تبوك في زمان عسرة وشدة وحر شديد فسار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك لرد كيد الروم فعسكر هناك ، ولم يلق كيداً وصالح بعض القبائل ، وغنم ثم رجع إلى المدينة وهذه آخر غزوة غزاها عليه الصلاة و السلام وجاءت في تلك السنة وفود القبائل تريد الدخول في الإسلام و منها وفد تميم ووفد طيء ووفد عبد القيس ، ووفد بني حنيفة وكلهم أسلموا ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يحج بالناس في تلك السنة وبعث معه علياً رضي الله عنه وأمره أن يقرأ على الناس سورة براءة للبراءة من المشركين وأمره أن ينادي في الناس فقال علي يوم النحر : ( يا أيها الناس لا يدخل الجنة كافر ، و لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته ) .
وفي السنة العاشرة عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على الحج , و دعا الناس إلى ذلك فحج معه من المدينة وغيرها خلقٌ كثير فأحرم من ذي الحليفة , و وصل إلى مكة في ذي الحجة وطاف وسعى وعلم الناس مناسكهم وخطب الناس بعرفات خطبة عظيمة جامعة , قرر فيها الأحكام الإسلامية العادلة فقال : ( أيها الناس اسمعوا قولي , فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا , أيها الناس إن دماءكم , وأموالكم , وأعراضكم حرام عليكم , كحرمة يومكم هذا , في شهركم هذا , في بلدكم هذا , ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع , ودماء الجاهلية موضوعة , وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث , كان مسترضعاً في بني سعد , فقتلته هذيل . وربا الجاهلية موضوع , وأول ربا أضع ربا عباس بن عبد المطلب , فإنه موضوع كله , فاتقوا الله في النساء , فإنكم أخذتموهن بأمان الله , واستحللتم فروجهن بكلمة الله , ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه , فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح , ولهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف , وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله , وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون , قالوا نشهد أنك قد بلَّغت , وأديت , ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد , اللهم اشهد ثلاث مرات ) .
ولما أكمل الله هذا الدين , وتقررت أصوله , نزل عليه وهو بعرفات : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) المائدة/3 .
وتسمى هذه الحجة حجة الوداع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ودع فيها الناس , ولم يحج بعدها ثم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من حجه إلى المدينة .
وفي السنة الحادية عشرة في شهر صفر بدأ المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم ولما اشتد عليه الوجع أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلى بالناس وفي ربيع الأول , زاد عليه المرض فقبض صلوات الله وسلامه عليه ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة فحزن المسلمون لذلك حزناً شديداً ثم غُسل وصلى عليه المسلمون يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء ودفن في بيت عائشة والرسول قد مات ودينه باق إلى يوم القيامة .
ثم اختار المسلمون صاحبه في الغار ورفيقه في الهجرة أبا بكر رضي الله عنه خليفة لهم ثم تولى الخلافة من بعده عمر ثم عثمان ثم علي وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون المهديون رضوان الله عليهم أجمعين .
وقد امتنّ الله على رسوله محمد بنعم عظيمة وأوصاه بالأخلاق الكريمة كما قال سبحانه : ( ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى ، فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، وأما بنعمة ربك فحدث ) الضحى/6-11 .
وقد أكرم الله رسوله بأخلاق عظيمة لم تجتمع لأحدٍٍ غيره حتى أثنى عليه ربه بقوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) القلم/4 .
وبهذه الأخلاق الكريمة , والصفات الحميدة , استطاع عليه السلام أن يجمع النفوس ويؤلف القلوب بإذن ربه : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) آل عمران/159 .
وقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وأنزل عليه القرآن وأمره بالدعوة إلى الله كما قال سبحانه : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ) الأحزاب/46 .
وقد فضل الله رسوله محمداً على غيره من الأنبياء بست فضائل كما قال صلى الله عليه وسلم : ( فضلت على الأنبياء بست , أعطيت جوامع الكلم , ونصرت بالرعب , وأحلت لي الغنائم , وجعلت لي الأرض طهوراً و مسجداً , وأرسلت إلى الناس كافة , وختم بي النبيون ) . رواه مسلم/523 .
فيجب على جميع الناس الإيمان به , و اتباع شرعه , ليدخلوا جنة ربهم : ( ومن يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ) النساء/13 .
وقد أثنى الله على من يؤمن بالرسول من أهل الكتاب وبشرهم بالأجر مرتين كما قال سبحانه : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ، أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ) القصص/52 -54 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه و صدقه فله أجران . الخ ) .
ومن لم يؤمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر , والكافر جزاؤه النار كما قال سبحانه : ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً ) الفتح/13 , وقال عليه الصلاة و السلام : ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار ) . رواه مسلم/154 .
و الرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم إلا ما علمه الله ولا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً كما قال سبحانه : ( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلاَّ نذير وبشير لقوم يؤمنون ) الأعراف/188 .
وقد أرسله الله بالإسلام ليظهره على الدين كله : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ) الفتح/28 .
ومهمة الرسول هي إبلاغ ما أرسل به , والهداية بيد الله : ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ ) الشورى/48 .
ولما للرسول صلى الله عليه وسلم من فضل عظيم على البشرية , بدعوتها إلى هذا الدين وإخراجها من الظلمات إلى النور , فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر وأمرنا بالصلاة عليه في حالات كثيرة فقال سبحانه : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليماً ) الأحزاب/21 .
وقد جاهد النبي عليه الصلاة و السلام في سبيل نشر هذا الدين وجاهد أصحابه معه فعلينا الاقتداء به واتباع سنته و السير على هديه كما قال سبحانه : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيراً ) الأحزاب/21 .
والإسلام دين الفطرة و العدل دين ارتضاه الله للناس كافة وهو يشتمل على أصول و فروع و آداب و أخلاق و عبادات و معاملات ولن تسعد الأمة إلا باتباعه والعمل به ولن يقبل الله من الناس غيره كما قال سبحانه : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) آل عمران/85 .
اللهم صلّ على محمد , وعلى آل محمد , كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري .
http://www.islamqa.info/ar/ref/11575
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)