السبت، 28 ديسمبر 2024

هل في فلسطين جهاد مشروع؟!

https://youtube.com/shorts/HN45nys95rQ?si=aXxn5mYkdP5BDjuS

الحمد لله البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز العليم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الكريم؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله، أحسن صلاة، وأتم تسليم.

فمن الثابت المستقر لدينا أنه ليس في فلسطين جهاد مشروع؛ وذلك لفقدان شروط الجهاد، وأهمها: شرط القدرة والاستطاعة.

ثم إن بعض الإخوة الفضلاء أثار هذه المسألة أثناء تعرُّضه لأحداث غزة (عام 1445)، وقال: إن الجهاد في فلسطين جهاد مشروع، وما تفعله حركة «حماس» أو غيرها من مناوشة اليهود: حق، وصواب، وهو من الجهاد المشروع.

وقبل الرد على هذا الكلام: نُحَرِّر موطن النزاع.

* ليس موطن النزاع في أن أصل الجهاد في فلسطين جهاد دفع، وأنه يجب على المسلمين القيام به بالنفس، أو المال، أو غير ذلك مما يفيد القضية الفلسطينية.

* وليس موطن النزاع في أن حركة «حماس» تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وعندهم من المخالفات والبدع ما يخرجهم عن أهل السنة والجماعة، فضلا عن ارتباطهم بالروافض، وحُسْن العلاقة معهم.

* وليس موطن النزاع في نصرة المسلم على الكافر -وإن كان المسلم مبتدعا-.

* وليس موطن النزاع في أنه قد يكون من الحكمة عدم الكلام في «حماس» الآن.

** وإنما موطن النزاع: هل ما تفعله «حماس» وغيرها قد توفر فيه شرط الجهاد، أم لا؟

وقد ينازع المخالف في افتقار جهاد الدفع للاستطاعة، ويرى أن الدفع واجب على كل مسلم بأي شيء يقدر عليه، وإن كان التفاوت بينه وبين قوة العدو شاسعا، كمواجهة العوام في فلسطين لليهود بالحجارة، أو نحوها.

ولنبتدئ بهذا الأمر الأخير، ونقرِّر أن جهاد الدفع يشترط له القدرة، لا جهاد الطلب -فحسب-، وذلك من وجوه:

* الوجه الأول: أن النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم لم يؤمروا بالجهاد في العهد المكي؛ وذلك لانعدام شوكتهم وقدرتهم، وأنهم مستضعفون مقهورون من عدوهم، وصورة الجهاد هنا صورة جهاد الدفع، أي: دفع الأذى الواقع من الكفار على المسلمين، ولا يقول أحد -بالطبع- إن الجهاد آنذاك كان جهاد طلب.

* الوجه الثاني: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه انحسب بالجيش في مؤتة؛ لكثرة عدد الكفار، وأقرَّه النبي ﷺ، بل اعتبر صنيعه فتحا ونصرا للمسلمين([1])، ولم يكن الجهاد آنذاك جهاد طلب.

* الوجه الثالث: أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان، وتخرج يأجوج ومأجوج؛ يوحي الله عز وجل إليه: «إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ»([2])، وهذه صورة جهاد الدفع؛ ولكن الله لم يأذن فيه؛ لانتفاء شرط القدرة والاستطاعة، وأمر بالمحافظة على المؤمنين، وهذا يدل على أن من مقاصد الجهاد: الحفاظ على بيضة المسلمين وأرواحهم، وأن كل صورة لا يتحقق فيها هذا الأمر؛ فليست من الجهاد المشروع.

* الوجه الرابع: أن الاعتبار ليس بالتفاوت في العدد -فقط- بيننا وبين العدو، بل القوة والسلاح -أيضا-، فإذا كان مع العدو من السلاح ما يستوعب به كثرة عدد المسلمين؛ فإنه لا يجب الثبات، كما لو كان العدو أكثر منا عددا.

قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله معلِّلًا عدم قدرتنا على محاربة العدو الآن: «لعدم القدرة، الأسلحة التي ذهب عصرها عندهم هي التي بأيدينا، وهي عند أسلحتهم بمنزلة سكاكين المَوْقَد عند الصواريخ، ما تفيد شيئا، فكيف يمكن أن نقاتل هؤلاء؟!» اهـ([3]).

قلت: ولا شك أن هذا الكلام ينطبق على جهاد الدفع كما ينطبق على جهاد الطلب.

وقضية القوة -هذه- قضية في منتهى الأهمية؛ لئلا يقول قائل: إن عامة حروب المسلمين مع الكفار كان فيها الكفار أكثر عددا، فنقول: نعم، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله؛ لكن جنس السلاح كان متماثلا متكافئا، وسنعود إلى تقرير هذا الأمر بعد حين.

* الوجه الخامس: أن مشروعية الصلح مع الكفار دليل قاطع على اشتراط القدرة في جهاد الدفع، وإلا؛ لرُخِّص في إفناء النفوس جميعا دفعا للعدو، ومن مقاصد الجهاد: حفظ النفوس، لا إفناؤها([4]).

* الوجه السادس: قال النووي رحمه الله: قال الإمام: إن كان في الثبات الهلاك المحض، من غير نكاية؛ وجب الفرار -قطعا-. قال النووي: هذا الذي قاله الإمام هو الحق» اهـ([5]).

قلت: ولا تفريق في هذا بين جهاد الدفع، وجهاد الطلب.

* الوجه السابع: قال أبو زكريا ابن النحاس رحمه الله: «فإن دخل الكفار بلدة لنا، أو أَطَلُّوا عليها، ونزلوا بابها قاصدين ولم يدخلوا، وهم مِثْلَا أهلها أو أقل من مِثْلَيهم؛ صار الجهاد حينئذ فرض عين» اهـ([6]).

قلت: فتأمل في مناط فرضية الجهاد في هذه الصورة: أن يكون عدد العدو ضِعْف عدد المسلمين، أو أقل من الضِّعْف، وقد ذكرنا أن التفاوت في القوة معتبر كالتفاوت في العدد، فقضية كلام ابن النحاس رحمه الله: أنه لو كان العدو متفوِّقا في عتاده وقوته، بحيث يمكنه استيعاب الفارق العددي؛ فإن الجهاد حينئذ لا يكون فرض عين؛ لافتقاره إلى شرط القدرة والاستطاعة.

وفي هذا القدر كفاية([7]).

فإذا تحقق لديك أن القدرة شرط في جهاد الدفع؛ فلْنَنْتَقِل إلى موضع النزاع:

هل ما تقوم به «حماس» وغيرها ينطبق عليه هذا الشرط؟

المفروض أن تكون هذه القضية منتهية، ولا يجادل فيها أحد؛ لأن المسألة مَدْرَكُها الواقع والحِسِّ.

هل مع «حماس» وغيرها قوة تصلح لمقاتلة اليهود؟

إن غاية ما تملكه تلك الحركات: تلك الصواريخ التي يطلقونها، والتي لا تُحدث نكاية في العدو، بل ينقلب الأمر بها شَرًّا ووَبَالًا على المستضعفين من المسلمين.

وهنا نتكلم على قضية بالغة الأهمية في الجهاد، وهي: الموازنة بين المصالح والمفاسد، فعلى كل عاقل أن يوازن بين المصلحة في تلك الهجمات على اليهود، وبين المفسدة التي تترتب على تلك الهجمات.

ماذا يخسر العدو بسبب تلك الهجمات؟! إتلاف يسير في المنشآت؟! قتل عدد يسير من اليهود؟! أَسْرُ عدد يسير منهم؟! إلقاء الرعب في قلوب العوام منهم؟!

كيف نقارن بين هذا، وبين قتل الآلاف من المسلمين، وتدمير بيوتهم، وتشريدهم في الأرض؟!

أي عاقل يقول: إننا نتحمل أنهارا من الدماء، في مقابل نفر من اليهود يُقتلون أو يُؤْسَرُون؟!

قال العلامة صالح الفوزان -حفظه الله-: «كم يُقتل من المسلمين بسبب مغامرة جاهل أغضب الكفار، وهم أقوى منه، فانقضوا على المسلمين تقتيلا وتشريدا وخرابا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويسمون هذه المغامرة بالجهاد، وهذا ليس من الجهاد؛ لأنه لم تتوفر شروطه، ولم تتحقق أركانه، فهو ليس جهادا، وإنما هو عدوان لا يأمر الله ۵ به» اهـ([8]).

وهنا يقول السفهاء من الناس: الحرب لا بد فيها من ضحايا!!

فنقول: هذا إن كانت حربا متكافئة، في جهاد حقيقي مشروع، وأما في تلك الصور الفوضوية؛ فلا.

ولسنا نقصد بالتكافؤ أن يكون معنا مثل ما مع العدو من سلاح، وإنما نقصد التقارب في القوة، حتى لو كان هناك تفاوت في القوة لصالح العدو، فإننا نستعين الله، ونقاتلهم، ونصر الله حينئذ يعوِّض ما لدينا من النقص.

مثال ذلك: سلاح الطيران، فلا يلزم أن يكون معنا مثل طائرات العدو في القوة والتطور؛ ولكن العبرة بجنس الطائرات التي تصمد أمام طائرات العدو -في الجملة-، بحيث يكون الفارق يسيرا.

وهكذا كانت غزوات النبي ﷺ، وحروب المسلمين من بعده: تقارب في السلاح والعتاد، وإن كان الكفار أكثر عددا.

فتبين بذلك أن ما يحدث في فلسطين ليس جهادا شرعيا، والسبب -كخلاصة لما تقدم ذكره- أمران:

الأول: أن السلاح الذي بأيدي «حماس» وغيرها لا يقارب سلاح اليهود، ولا يُحدث نكاية فيهم، فتخلَّف بذلك شرط القدرة والاستطاعة.

الثاني: أن ما تفعله تلك الحركات يترتب عليه مفسدة عُظمى أكبر من مجرد تخويف العدو، أو ضرر يسير يحدث لهم.

ويُستحضَر -أيضا-: أن الصورة في فلسطين صورة احتلال وسيطرة على الأرض، وحتى يتم النصر لا بد من مزيد قوة كافية لإزاحة العدو عما يحتله، وهذا يختلف عن مجرد قتال خارج البلدان المسلمة، كما وقع في الأندلس: كانت بلدا إسلاميا، حتى احتلها الكفار، وسيطروا على أرضها، وصار المسلمون فيها قِلَّة مستضعفين؛ فهل يقول عاقل: إنه يجب جهاد الكفار هناك حتى نستعيد البلد؟! وهذه الصورة -بعينها- هي الموجودة في فلسطين.

ونختم الكلام بذكر ما تيسر من كلام علمائنا الأكابر، الذين أفْتَوْا بعدم شرعية الجهاد في فلسطين، أو كان كلامهم يدل دلالة واضحة على ذلك.

* سئل الإمام الألباني رحمه الله: «شيخنا، بالنسبة لسؤال الاغتيالات، أحد الإخوة هنا أرسل يسأل: ما حكم النزول في عملية في فلسطين، طبعا بقصد الجهاد في سبيل الله، وغير ذلك، وزعم أنه فرض عين على كل مسلم ومسلمة في هذا الوقت الحاضر؛ فما قولكم في هذا؟».

فأجاب: «نحن نقول إن الجهاد في فلسطين هو -بلا شك- جهاد عيني؛ ولكن يجب اتخاذ العدة، والآن اتخاذ العدة مسدود الطريق أمام من كان يستطيع أن يتخذ العدة؛ فهو الآن مادام لم تتخذ العدة التي أمر الله بها فهو لا يقال إنه واجب؛ لأنه حينذاك يعني بقى كل فرد يركب رأسه، ويروح ويجاهد، ويفعل الفعل، ثم يأتي بعد ذلك شرور أكبر من المصلحة التي هو يريد أن يحصِّلها بمثل هذا الجهاد الذي ذكرته عنه، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾، هذا نحن ندندن دائما حوله، وهو يتطلب الاستعداد الإيماني والنفسي، ثم يأتي الاستعداد المادي، وأين المسلمين وهذا الاستعداد إنما هي عواطف جامحة، لا نظام لها ولا قيود ولا شروط، وهذا لا يجوز» اهـ([9]).

وقال رحمه الله أيضا: «نحن دائمًا نقول بأن هذه الانتفاضة القائمة الآن في فلسطين ليست انتفاضة شرعية، وإنما هي انتفاضة عاطفية فقط، أما الإسلام فيأمر المسلمين أولاً بتقوى الله تبارك وتعالى في ذوات أنفسهم، وفي أهليهم وذويهم، وثانيًا أن يستعدوا للخلاص من نير الاستعمار والاستيلاء اليهودي عليهم، أما أن يتعاطوا وسائل لا تفيدهم شيئًا، ولا يعني تنكأ في عدوهم، بل العكس العدو ينكأ منهم؛ فهذا في الواقع أولاً من باب الإلقاء بالنفس في التهلكة، وثانيًا على خلاف منهج الرسول عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام حيث أن كل جماعة مسلمة، تقع في مثل هذه الهجمة الشرسة، لابد أن ينحو في مقاومتها منحى الرسول عليه السلام وأصحابه الكرام، ونحن نعلم أن ﷺ حينما دعا دعوة الإسلام، بدأ بدعوتها أول شيء بدعوة التوحيد وسرًا، ثم بدأ يجهر بها رويدًا رويدًا، وآمن به بعض الصحابة كما هو معروف في التاريخ الإسلامي الأول، ولقي هؤلاء الأصحاب الأولون ما لقوا من الشدة والضغط والضرب والتعذيب الشديد، ما يلقاه كل مسلم مع عدوه، ومع ذلك فما كان موقفهم هو التسرع إلى مجابهة الكفار دون أن يستعدوا إلى هذه المجابهة بالعدة الواجبة، ونعتقد بأن عدة المسلم واستعداده ينبغي أن يشتمل على أمرين اثنين: الأمر الأول: هو الإيمان بالله عز وجل إيمانًا صحيحًا قويًا. والشيء الثاني: أن يتخذ من الوسائل المادية التي تمكنه أولاً من تقليل المصائب والأضرار في جماعة المسلمين، وأول ذلك الهجرة، وثاني ذلك الأسلحة المادية المعروفة في كل زمان» اهـ([10]).

وقال رحمه الله أيضا: «ليس هناك جهاد، قلنا نحن صراحة، وفي فلسطين ليس هناك جهاد، هناك مقاومة، وهذه المقاومة لا تفيد شيئا» اهـ([11]).

* وسئل الإمام ابن عثيمين رحمه الله: «بالنسبة لجهاد الدفع قلنا: إنه يتوجّب في جميع الأحوال، حتى ولو كان الإنسان يعني ما يستطيع أنه يجاهد، كما يفعل الآن بالحجارة».

فأجاب: لا، هو تعرف أنه حتى جهاد الدفع دفع عن النفس واجب بأي وسيلة؛ لكن مسألة الفلسطينيّين هذه تحتاج إلى نظر بعيد وتعمّق؛ لأن اليهود إذا قُتِل منهم واحد؛ كم يقتلون؟ نعم؟

السائل: عشرة.

الشيخ: يعني يقتلون عشرة، ويُفسدون أكثر؛ فلهذا لا بد من الحكمة في هذه الأمور» اهـ([12]).

وقال رحمه الله -أيضا-: «يجب على المسلمين الجهاد؛ حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله؛ لكن الآن ليس بأيدي المسلمين، ولا يستطيعون جهاد الكفار، حتى ولا جهاد مدافعة في الواقع» اهـ([13]).

* وقال الإمام ابن باز رحمه الله: «أرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل لتلك القضية، إلا باعتبار القضية إسلامية، وبالتكاتف بين المسلمين لإنقاذها، وجهاد اليهود جهاداً إسلامياً، حتى تعود الأرض إلى أهلها» اهـ([14]).

قلت: قوله: «جهادا إسلاميا» يدل على أن الجهاد المطلوب هو الذي يصلح بوحدة المسلمين، وإعدادهم العُدَّة، ومفهوم ذلك: أن الجهاد الذي لا تتحقق فيه هذه الصورة لا يعتبر جهادا إسلاميا.

* وقال العلامة صالح الفوزان -حفظه الله-: «على المسلمين أن يصلحوا أنفسهم قبل كل شيء، يصلحوا أنفسهم، ويتوبوا إلى الله، ويرجعوا إلى دينهم، ويحكِّموا شريعة ربهم، فإذا أصلحوا أنفسهم وتهيئوا لقتال العدو؛ فإن الله ينصرهم على عدوهم، أما ما داموا في أنفسهم غير صالحين؛ فلن يستطيعوا أن يقاوموا أحدًا، ويسلط الله عليهم الأعداء بسبب تغييرهم لدينهم» اهـ([15]).

قلت: فهذا ظاهر تماما في أن النصر لا يأتي إلا بعد إصلاح النفوس، وإعداد العدة، والواقع في فلسطين غير ذلك.

* وقال العلامة صالح السحيمي -حفظه الله- في بيان شروط الجهاد الشرعي: «الأمر الثالث: أن تكون للمسلمين شوكة يُقاتَل من ورائها، يكون لهم قوة، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾».

إلى أن قال: «الأمر والسابع والأخير مما سنذكره: أن يغلب على الظن انتصار المسلمين، أما إذا خُشي من وجود منكر أعظم، أو من استئصال المسلمين، أو القضاء عليهم، أو الإضرار بهم أكثر، فلا جهاد».

إلى أن قال: «لماذا هذه التصرفات التي أدَّت إلى هذه المأساة؟ لماذا نستثير العدو ونحن لا قِبل لنا به؟، «لا تتمنوا لقاء العدو»، العدو ما يُستثار إلا إذا كان للمسلمين شوكة وقوة ومنعة وسلاح أقوى من العدو، أما بدون ذلك؛ فلا جهاد» اهـ([16]).

* وقال الشيخ محمد عمر بازمول -حفظه الله-: «لو كان مطلوب ضحايا للحصول على الحق؛ لماذا أمر الرسول ﷺ بالهجرة، ولماذا أذن للذين هاجروا إلى الحبشة؟! من قال لك: لابد أن يكون هناك ضحايا وقتلى ليحصل النصر؟! من قال لك: أنه لابد لنيل الكرامة من التضحية بمسلمين؟! هذا ليس من الدين، الذي في الدين: الصبر، والإعداد؛ أما أن تدخل بالناس في حرب لا يَدَانِ لهم بها، وتقول: درب الحرية والكرامة لابد فيه من ضحايا؛ فهذا ليس من الإسلام في شيء» اهـ([17]).

وقال أيضا: «إذا تمكن العدو من البلد، وأصبح مستقرا فيها؛ فإما ان ندخل معه في صلح، أو لا، فإن لم ندخل معه في صلح؛ فإن كنا في حال ضعف؛ فالصبر هو المطلوب، كما صنع الرسول ﷺ في العهد المكي، خاصة إذا كان المعتدي غاشما، وإلا إن كان الوضع يحتمل شيئا، فإنه يراعى فيه بحسب ما يحقق من المصالح ويدرء المفاسد والضرر».

وقال -أيضا-: «إن كان الحال أن العدو مستقر في البلد، ودخلنا معه في صلح، وجاء أفراد يناوشون العدو بما يجر الضرر على المسلمين في البلد؛ فإن هذا يُحتاج أن يُنتبه فيه إلى الأمور التالية: أن ما يفعله هؤلاء ليس من جهاد الدفع أصلا، وأن فعلهم هذا نقض للعهد واطراح للصلح، وأنه ينبغي الأخذ على أيديهم؛ لما يجرُّونه من ضرر على المسلمين» اهـ([18]).

قلت: وفي هذا القدر كفاية ومَقْنَع، وبه يستبين الأمر -ولله الحمد-.

بقي أن يقال: هل المسألة اجتهادية، بحيث يسوغ لأحد أن يقول: إن الجهاد في فلسطين جهاد شرعي؟

والجواب: كَلَّا؛ لأمرين:

الأول: أن الخلاف إنما يسوغ في الأمور المحتملة التي ليس فيها حجة شرعية تفصل النزاع، ومسألتنا قد توفرت فيها الحجة الواضحة المُلْزِمة لكل أحد، ولا يسع العاقل المنصف إلا الإقرار بذلك.

الثاني: أن المسألة أخذت طابعًا منهجيًا، ولم تعد مجرد مسألة فقهية؛ لأنها صارت شعارا لأهل السنة في مواجهة أهل البدع، فأهل البدع -من الإخوان المسلمين، وغيرهم- يجيزون ما يحدث في فلسطين، ويعتبرونه جهادا مشروعا، يخالفون بذلك الأصول والقواعد الشرعية، وكلام أهل العلم الراسخين؛ فلمَّا كان الأمر كذلك؛ فقد صار قول أهل السنة الذي عرفناه في مقابلة قول أهل البدع، واتُّخذت المسألة شعارا لدى الطرفين.

ونظير مسألتنا: مسألة المسح على الخفين، هي -في أصلها- مسألة فقهية؛ ولكن لمَّا أنكرها أهل البدع، مخالفين بذلك السنة المتواترة، والإجماع؛ قابَلَهُم أهل السنة بإثبات المسح، ونصُّوا عليه في عقائدهم، وصارت المسألة شعارا للسنة.

ثم إن مسألتنا من النوازل، التي لا يفتي فيها إلا عالم كبير راسخ، وطلبة العلم -من أمثالنا- يتبعون كلامه، ولا يخالفونه.

فالواجب على من خالف في مسألتنا أن يرجع عن قوله، ويتمسك بالقواعد الشرعية، وكلام أهل العلم الكبار؛ وخلافُ ذلك: يؤدي إلى نتيجة لا تُحمد عقباها، ويؤدي إلى فتنة نحن في غنى عنها، ويكفينا ما نحن فيه من الفتن، والتهاجُر، والتفرُّق.

نسأل الله الهداية، والتوفيق للحق، والثبات عليه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المراجع


([1]) أخرج البخاري (4014)، من حديث أنس ﭬ: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَعَى زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ»، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ: «حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».

([2]) أخرجه مسلم (2937)، من حديث النَّوَّاس بن سَمْعان رضي الله عنه.

([3]) «تذكير العباد بفتاوى أهل العلم في الجهاد» (ص 34) [بواسطة: «الجهاد أنواعه وأحكامه» للشيخ حمد العثمان (ص 127)].

([4]) «الجهاد أنواعه وأحكامه» (ص 252).

([5]) «روضة الطالبين» (10/249) [بواسطة: «الجهاد أنواعه وأحكامه» (ص 253)].

([6]) «مشارع الأشواق» (101) [بواسطة «الجهاد أنواعه وأحكامه» (ص 253)].

([7]) إن شئت المزيد من الفائدة؛ فراجع كتاب «الجهاد أنواعه وأحكامه» للشيخ حمد العثمان، فقد أجاد وأفاد.

([8]) بواسطة «الجهاد أنواعه وأحكامه» (ص 130).

([9]) سلسلة الهدى والنور - الشريط 344.

([10]) سلسلة الهدى والنور-الشريط 459.

([11]) سلسلة الهدى والنور-الشريط 669.

([12]) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير والإمارة-الشريط 9 الوجه ب.

([13]) «لقاءات الباب المفتوح» (33/16).

([14]) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز (1/ 277).

([15]) فتاوى مجموعة في مقطع واحد على موقع اليوتيوب، الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=M8geiUrPKw8

([16]) مقطع منشور على اليوتيوب بتاريخ 2/1/2024م، بعنوان: [الرد على من يتهمنا بأننا نخذل عن الجهاد، والحذر من المتحذلقين في أحداث غزة و فلسطين].

ورابطه:https://www.youtube.com/watch?v=GmFWSquY0Ro.

([17]) تغريدة على موقع إكس (تويتر سابقا).

الرابط:https://x.com/momalbaz/status/1728398009757577476?s=20.

([18]) تغريدة على موقع إكس (تويتر سابقا):

الرابط:https://x.com/momalbaz/status/1723562158275883327?s=20.




ومرة أخرى!

هل في فلسطين

جهاد مشروع؟!


الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فإن العبد الفقير كان قد كتب مقالة، بعنوان: «هل في فلسطين جهاد مشروع؟»، بيَّنتُ فيها من الحجج والبراهين ما يكفي للقطع بأن الجهاد هناك ليس بمشروع، وأيَّدتُ ذلك بما تيسر من أقوال العلماء الأكابر، وكل هذا كان ردًّا على بعض الإخوة، الذين رأوا أن الجهاد هناك مشروع وصحيح.

ولما نُشِرت المقالة؛ ووصلت إلى الأخ المومى إليه؛ سارع بعض أصحابه بنقل كلام آخر للعلماء بشرعية الجهاد في فلسطين، وأن جهاد الدفع لا تشترط له القدرة؛ وأَيَّدَهُمْ الأخ المومى إليه.

والمؤسِف هنا أمران:

الأمر الأول: أن المومى إليه لم يرد على مقالي ردًّا علميا، بل سارع بنقل أقوال الرجال.

وهذا يخالف أصلا مستقرا لدى أهل العلم، وهو أن الحجة تقابَل بمثلها، لا بمجرد أقوال الرجال، فمن تبينت له الحجة الشرعية الصحيحة؛ لم يَحِلَّ له أن يتركها لقول أحد من الناس، وهذه قضية لا تحتاج إلى تقرير، بل هي معلومة بالضرورة، وخصوصا لدينا -معشر أهل السنة-.

الأمر الثاني: أن عامة ما نقلوه إما خارج عن محل النزاع، وإما خطأ واضح من قائله، لا يجوز أن يُتابَع عليه، وإما أن يكون له كلام آخر مخالف، مما نقلتُه أنا في مقالي.

ولْنَتَعَرَّضْ للنقول التي أوردوها، ونبيِّن ما فيها.


* النقل عن الإمام ابن باز رحمه الله:

قال رحمه الله: «لقد ثبت لدينا بشهادة العدول الثقات: أن الانتفاضة الفلسطينية والقائمين بها من خواص المسلمين هناك، وأن جهادهم إسلامي؛ لأنهم مظلومون من اليهود، ولأن الواجب عليهم الدفاع عن دينهم وأنفسهم وأهليهم وأولادهم، وإخراج عدوهم من أرضهم بكل ما استطاعوا من قوة، وقد أخبرنا الثقات الذين خالطوهم في جهادهم، وشاركوهم في ذلك، عن حماسهم الإسلامي، وحرصهم على تطبيق الشريعة الإسلامية فيما بينهم، فالواجب على الدول الإسلامية وعلى بقية المسلمين تأييدهم ودعمهم؛ ليتخلصوا من عدوهم، وليرجعوا إلى بلادهم» اهـ المراد([1]).

قلت: وهذا الكلام يقابله كلام آخر، نقلتُه في مقالي المذكور سَلَفًا.

قال رحمه الله: «أرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل لتلك القضية، إلا باعتبار القضية إسلامية، وبالتكاتف بين المسلمين لإنقاذها، وجهاد اليهود جهاداً إسلامياً، حتى تعود الأرض إلى أهلها» اهـ([2]).

قلت: فمجموع كلامه رحمه الله يدل على أن أصل الجهاد في فلسطين جهاد شرعي، وحتى يؤتي ثمرته: لا بد أن يتكاتف فيه المسلمون، ويدعموا إخواننا هناك بما يقدرون عليه.

والسؤال الآن: ماذا لو كان الواقع خلاف ما ذكره الشيخ؟!

كلنا يعلم أن دعم القضية الفلسطينية ليس له أثر يُذكر، فهل يتناول كلام الشيخ هذا الواقع، ويصح تنزيله عليه؟!

لا بد من فهم الكلام في سياقه الواضح، وتنزيله على الصورة التي يتناولها، وأما تنزيله على صورة لم يتناولها؛ فهذا خطأ واضح.

وسنتنزَّل مع المخالف، ونقول: إن الشيخ ابن باز رحمه الله يقِرُّ ما تفعله «حماس» وغيرها، ويرى أن هذا من الجهاد الشرعي الصحيح.

فكان ماذا؟!

قول عالم، يُحتج له، ولا يُحتج به.

* النقل عن الإمام ابن عثيمين رحمه الله:

قال رحمه الله: «نحن -حسب ما سمعنا- أن اليهود قتَّلت الفلسطينيين، وسامتهم سوء العذاب، بعد ما يسمونه بالانتفاضة، والله أعلم هل هي حقيقة واقعة، أو أنه قد غُرِّر بالفلسطينيين ليتحركوا هذه الحركة فيَقضي عليهم اليهود؟ الله أعلم؛ لكن على كل حال؛ الذي يليق بنا: أن نعين هؤلاء على ما هم فيه من المحن والأذى بكل حال، وحسب ما سمعت أن هؤلاء الفلسطينيين الذين في الأرض المحتلة رجعوا إلى الله ۵، وصار فيهم شباب متيقظ كما هو -الحمد لله- موجود في كثير من البلاد، وأنهم تحركوا هذه الحركة حركة إسلامية لا قومية، وإنها إسلامية يريدون أن يتخلصوا من اليهود الذين يحتلون المسجد الأقصى، ومعلوم أنه إذا كانت الحركة حركة إسلامية لإنقاذ البلاد من الكفر، فهو جهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله من وظائف المسلمين، ومن مهمات المسلمين، ولكن لا بد من طريق طويل بالنسبة للفلسطينيين؛ لأنهم عُزَّل، ولا يمكنهم حمل السلاح بواسطة السيطرة القومية من جانب اليهود عليهم، فالمسألة تحتاج إلى ما يسمونه بالتضحيات، وإلى طول نفس ومدة حتى يأتي الله تعالى بالنصر» اهـ([3]).

قلت: هذا الكلام محمول على أن الشيخ رحمه الله يرى أن أصل الجهاد في فلسطين جهاد دفع، وجهاد في سبيل الله، وليس هذا موطنا للنزاع -كما ذكرته في مقالي السابق-.

ويتعيَّن هذا الحمل عندما نطَّلع على الكلام الآخر للشيخ، الذي نقلته في مقالي:

سئل رحمه الله: «بالنسبة لجهاد الدفع قلنا: إنه يتوجّب في جميع الأحوال، حتى ولو كان الإنسان يعني ما يستطيع أنه يجاهد، كما يفعل الآن بالحجارة».

فأجاب: لا، هو تعرف أنه حتى جهاد الدفع دفع عن النفس واجب بأي وسيلة؛ لكن مسألة الفلسطينيّين هذه تحتاج إلى نظر بعيد وتعمّق؛ لأن اليهود إذا قُتِل منهم واحد؛ كم يقتلون؟ نعم؟

السائل: عشرة.

الشيخ: يعني يقتلون عشرة، ويُفسدون أكثر؛ فلهذا لا بد من الحكمة في هذه الأمور» اهـ([4]).

وقال رحمه الله -أيضا-: «يجب على المسلمين الجهاد؛ حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله؛ لكن الآن ليس بأيدي المسلمين، ولا يستطيعون جهاد الكفار، حتى ولا جهاد مدافعة في الواقع» اهـ([5]).

قلت: فهذا نص محكم من الشيخ رحمه الله، لا يحتمل تأويلا، فلا بد أن نَرُدَّ إليه الكلام الآخر الذي نقله المخالف، ولو كان المخالف قد اطلع على الكلام الذي نقلته؛ فلا معنى لإيراد ما أورده من الكلام الآخر.

ومع التنزُّل: فسنقول إن الشيخ رحمه الله يرى مشروعية الجهاد في فلسطين.

فكان ماذا؟!

قول عالم، يُحتج له، ولا يُحتج به.

* النقل عن العلامة صالح اللحيدان رحمه الله:

قال رحمه الله: «أما في دفع العدو الصائل المهاجِم؛ فينبغي أن يتم دفعه ودفاعه، حتى ولو اشترك في الدفاع النصارى المقيمون الذين هم من أهل البلد؛ لأن الدفاع عن البلد إذا قام به من ينفع في الدفاع، أو ينفع، يُنتفع بمشاركته، ويُتضرر بفقده، فينبغي أن تتضافر الجهود على دفع العدو، فنسأل الله أن يدفع هذا العدو الصائل بمصيبة عاجلة» اهـ([6]).

وقال -أيضا-: «جهاد الدفع أن يُهجَم على الناس في بلدهم، يأتي عدو كافر يهجم على الناس، فهذا هو جهاد الدفع، ويجب على كل قادر على الدفاع أن يدافع عن البلد» اهـ([7]).

قلت: وكلامه رحمه الله واضح في حال هجوم العدو على بلد الإسلام، ففي أثناء الهجوم والقتال يُدفع العدو بحسب الإمكان، وهذا ليس موطنا للنزاع، وإنما هو في حال تمكُّن العدو من البلد، واستحواذه عليها، بحيث يصير المسلمون قِلَّة مستضعَفة لا شوكة لهم؛ فهل يتنزل كلام الشيخ على هذه الصورة؟! الجواب واضح.

ومع التنزُّل -أيضا-: فسنقول إن الشيخ رحمه الله يرى مشروعية الجهاد في فلسطين.

فكان ماذا؟!

قول عالم، يُحتج له، لا يُحتج به.

* النقل عن العلامة سليمان الرحيلي -حفظه الله-:

قال رحمه الله: «ما يُدار في الساحة في هذه الأيام من أن القتال في فلسطين -فك الله أسرها، وكب الله عدوها، ودمره بسلاحه، وفرَّج عن أهلها، وحفظ أقصانا وأقصاها، وحفظ أهلها وأهلينا-، أن القتال في فلسطين هذه الأيام قتال دفع وجهاد دفع، وجهاد الدفع لا تُشترط له الشروط، ويكون فرض عين على الأمة، وأنه يجب على كل قادر من شباب الأمة أن يذهب إلى فلسطين ليقاتل هناك، وإن لم يفعل فهو آثم مفرِّط؛ وهذا القول غلط، ومجانب للصواب من جهات:

أما الجهة الأولى: فقولهم: «إن جهاد الدفع لا تُشترط له الشروط»، لا شك أن جهاد الدفع لا تُشترط له الشروط التي لا يمكن تحققها في جهاد الدفع، أما راية ولي الأمر فإنها شرطٌ في الجهاد كلِّه -جهاد الطلب وجهاد الدفع-، ولا يُستثنى من ذلك عند الفقهاء إلا حالة واحدة: إذا داهم العدو طرفًا من أطراف البلاد، وخاف الناس هناك إن انتظروا رأي ولي الأمر أن يدهمهم العدو وأن يستولي العدو على محلِّهم وأن يستأصلهم، فهنا نصَّ الفقهاءُ على أنهم يدفعون عن أنفسهم.

بل إني أذكر لكم شيئًا عجيبًا: إن الإمام أحمد -رحمه الله عز وجل- لما ذُكِرت له هذه الصورة المستثناة: هل يجوز لأهل الثغر هؤلاء أن يدفعوا عن أنفسهم بدون راية ولي الأمر؟ قال: أرجو، ولم يقل: يجوز، أو نحو ذلك، وذلك لأن النصوص الشرعية دالةٌ على أن الجهاد إنما يكون تحت راية ولي الأمر، ولمَّا كانت هذه الحالة مستثناة للضرورة، قال الإمام أحمد رحمه الله: «أرجو»، أرجو أن يجوز هذا، ولم يجزم لمكانة النصوص العامة في مثل هذا الأمر.

فإذا كان يمكن الرجوع إلى ولي الأمر في أي جهاد، فإنه لا يجوز تخطِّيه، ولا يجوز ترك رايته» اهـ([8]).

قلت: قوله: «لا شك أن جهاد الدفع لا تُشترط له الشروط التي لا يمكن تحققها

في جهاد الدفع» إن أراد به عدم اشتراط القدرة والاستطاعة؛ فهذا خطأ من الشيخ -حفظه الله-، لا يُتابَع عليه، وقد ذكرتُ في مقالي السابق من الأدلة وكلام أهل العلم ما يكفي في تقرير المسألة.

وأما اشتراط إذن ولي الأمر؛ فهذا قد يكون حجة على المخالف، من جهة أن ما تفعله «حماس» وغيرها ليس بإذن ولي أمرهم، الذي هو -من الناحية الرسمية- الرئيس محمود عباس، والعبرة في ثبوت الإمامة كما قال الإمام أحمد رحمه الله: «حتى صار خليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين»، فالمفروض أن جميع الفصائل الفلسطينية تَنْضَوي تحت إمرة الرئيس محمود عباس.

وبكل حال، لو كان في كلامي هذا مخالفة للواقع هناك؛ فلا بأس، ونحن باقون على موطن النزاع بيننا.

هذا هو جميع ما أورده المخالف من نقول عن أهل العلم، وقد عرفتَ ما فيها.

ولو كان المخالف يريد إثبات أن المسألة خلافية اجتهادية؛ فمتى كان الخلاف نِدًّا للأدلة والبراهين؟!

إن أهل العلم لو اختلفوا في مسألة؛ فليس قول بعضهم حجة على بعض، ووجب الرجوع إلى الأدلة التي تؤيِّد أحد الأقوال، ولا يجوز الاحتجاج بمجرد الخلاف بين العلماء.

وأذكِّر إخواني بمسألة الانتخابات، والعمل السياسي المعاصر؛ أَلَسْنَا نعلم جميعا أن الأكابر من أهل العلم قد أفتوا بجواز المشاركة؟ ومع هذا؛ فقد أجمعنا على عدم الأخذ بقولهم، وقلنا: أرادوا بكلامهم صورة لا تتحقق في الواقع، فلا يجوز تنزيل كلامهم على الموجود في الواقع.

فكذلك الأمر في مسألتنا، وموطن النزاع واضح وصريح: جهاد الدفع مشروط بالقدرة والاستطاعة، ولا بد من التفريق بين حال هجوم العدو، وحال تمكُّنه من البلد، ولا بد من مراعاة المصالح والمفاسد، فالمفاسد التي تلحق بالعدو من جَرَّاء تلك الهجمات التي تقوم بها الفصائل الفلسطينية: لا يمكن مقارنتها بالمفاسد التي تحصل للمسلمين المستضعفين.

فالأدلة والقواعد الشرعية تقطع بعدم مشروعية الجهاد في فلسطين، والخلاف في ذلك -إن وُجد- خلاف غير سائغ، ومعلوم أن الخلاف غير السائغ هو ما كان فيه خلاف للدليل المحكم الذي لا يقبل التأويل، وكل من اطلع على أدلة مسألتنا، وكان عاقلا منصفا؛ فإنه لا يسعه إلا الإقرار بقولنا.

فالواجب على جميع إخواننا أن يلتزموا بهذه القواعد الشرعية، ويتجرَّدوا للدليل والحجة، ويتجنبوا مواطن الفتن والشقاق.

نسأل الله أن يهدينا جميعا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، ويثبتنا على الحق حتى نلقاه، ويجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المراجع


([1]) مجلة الدعوة الصادرة في 9/8/1409هـ. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: 4/ 295).

([2]) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لابن باز (1/ 277).

([3]) فتاوى الحرم المكي-1408-الشريط 13 الوجه ب.

([4]) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير والإمارة-الشريط 9 الوجه ب.

([5]) «لقاءات الباب المفتوح» (33/16).

([6]) مقطع على اليوتيوب، على هذا الرابط:https://www.youtube.com/watch?v=3R4PSGSwdNg

([7]) مقطع على اليوتيوب، على هذا الرابط:https://www.youtube.com/watch?v=b5psHLnPNbY

([8]) مقطع على اليوتيوب، على هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=11nP2KmYp_Q