الأربعاء، 7 أكتوبر 2015

قال تعالى ﷻ : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }

قال تعالى ﷻ :  
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } 
[ يونس : 99 ]



تفسير الميسر 
ولو شاء ربك -أيها الرسول- الإيمان لأهل الأرض كلهم لآمنوا جميعًا بما جئتهم به, ولكن له حكمة في ذلك; فإنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء وَفْق حكمته, وليس في استطاعتك أن تُكْره الناس على الإيمان.

تفسير المختصر 
ولو شاء ربك ـ أيها الرسول ـ إيمان جميع من في الأرض لآمنوا، لكنه لم يشأ ذلك لحكمة، فهو يضل من يشاء بعدله، ويهدي من يشاء بفضله، فليس باستطاعتك إكراه الناس على أن يكونوا مؤمنين، فتوفيقهم للإيمان بيد الله وحده.

تفسير السعدي :
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ْ} بأن يلهمهم الإيمان، ويوزع قلوبهم للتقوى، فقدرته صالحة لذلك، ولكنه اقتضت حكمته أن كان بعضهم مؤمنين، وبعضهم كافرين.
{ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ْ} أي: لا تقدر على ذلك، وليس في إمكانك، ولا قدرة لغير الله  [على]شيء من ذلك.

تفسير الوسيط لطنطاوي
ثم أضاف- سبحانه- إلى هذه التسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية أخرى فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ... ومفعول المشيئة محذوف والتقدير:
ولو شاء ربك- يا محمد- إيمان أهل الأرض كلهم جميعا لآمنوا دون أن يتخلف منهم أحد، ولكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك، لأنه مخالف للحكمة التي عليها أساس التكوين والتشريع، والإثابة والمعاقبة، فقد اقتضت حكمته- سبحانه- أن يخلق الكفر والإيمان، وأن يحذر من الكفر ويحض على الإيمان، ثم بعد ذلك من كفر فعليه تقع عقوبة كفره، ومن آمن فله ثواب إيمانه.
والهمزة في قوله- سبحانه- أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ للاستفهام الإنكارى، والفاء للتفريع.
والمراد بالناس: المصرين على كفرهم وعنادهم.
والمعنى: تلك هي مشيئتنا لو أردنا إنفاذها لنفذناها، ولكننا لم نشأ ذلك فهل أنت يا محمد في وسعك أن تكره الناس الذين لم يرد الله هدايتهم على الإيمان؟.
لا، ليس ذلك في وسعك ولا في وسع الخلق جميعا، بل الذي في وسعك هو التبليغ لما أمرناك بتبليغه.
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية أخرى للرسول صلى الله عليه وسلم ودفع لما يضيق به صدره، من إعراض بعض الناس عن دعوته.


تفسير البغوي
قوله تعالى : ( ولو شاء ربك ) يا محمد ، ( لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه كان حريصا على أن يؤمن جميع الناس ، فأخبره الله جل ذكره : أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة ، ولا يضل إلا من سبق له الشقاوة .


تفسير ابن كثير 
يقول تعالى : ( ولو شاء ربك ) - يا محمد - لأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به ، فآمنوا كلهم ، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كما قال تعالى : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) [ هود : 118 ، 119 ] ، وقال تعالى : ( أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ) [ الرعد : 31 ] ؛ ولهذا قال تعالى : ( أفأنت تكره الناس ) أي : تلزمهم وتلجئهم ( حتى يكونوا مؤمنين ) أي : ليس ذلك عليك ولا إليك ، بل [ إلى ] الله ( يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات )[ فاطر : 8 ] ، ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) [ البقرة : 272 ] ، ( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) [ الشعراء : 3 ] ، ( إنك لا تهدي من أحببت ) [ القصص : 56 ] ، ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : 40 ] ، ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ) [ الغاشية : 21 ، 22 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد ، الهادي من يشاء ، المضل لمن يشاء ، لعلمه وحكمته وعدله 


تفسير القرطبي 
قوله تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين
قوله تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أي لاضطرهم إليه . كلهم تأكيد ل " من " . جميعا عند سيبويه نصب على الحال . وقال الأخفش : جاء بقوله جميعا بعد " كل "تأكيدا ; كقوله : لا تتخذوا إلهين اثنين
قوله تعالى أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين قال ابن عباس : كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان جميع الناس ; فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول ، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول . وقيل : المراد بالناس هنا أبو طالب ; وهو عن ابن عباس أيضا .


تفسير الطبري 
القول في تأويل قوله تعالى :وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكر لنبيه: (ولو شاء) ، يا محمد ، (ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا)، بك، فصدَّقوك أنك لي رسول ، وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له ، حقٌّ، ولكن لا يشاء ذلك، لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولا أنه لا يؤمن بك ، ولا يتّبعك فيصدقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور ، إلا من سبقت له السعادةُ في الكتاب الأوّل قبل أن تخلق السموات والأرض وما فيهن، وهؤلاء الذين عجبوا من صِدْق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره ، ممَّن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17909- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ، [سورة يونس: 100] ، ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميعُ الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأَوّل (15) ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاء في الذّكر الأول.
* * *
فإن قال قائل: فما وجه قوله: (لآمن من في الأرض كلهم جميعًا)، فـ " الكل "يدل على " الجميع "، و " الجميع "على " الكل "، فما وجه تكرار ذلك ، وكل واحدة منهما تغني عن الأخرى؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك:
فقال بعض نحويي أهل البصرة: جاء بقوله " جميعًا " في هذا الموضع توكيدًا ، كما قال: لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ، [سورة النحل: 51] ، ففي قوله: " إلهين " دليل على " الاثنين ".
وقال غيره: جاء بقوله " جميعًا " بعد " كلهم "، لأن " جميعًا " لا تقع إلا توكيدًا، و " كلهم " يقع توكيدًا واسمًا، فلذلك جاء ب " جميعًا " بعد " كلهم ". قال: ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد ، لجاز ههنا. قال: وكذلك: إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ، العدد كله يفسر به، فيقال: " رأيت قومًا أربعة "، فلما جاء " باثنين " ، وقد اكتفى بالعدد منه ، لأنهم يقولون: " عندي درهم ودرهمان " ، فيكفي من قولهم: " عندي درهم واحد ، ودرهمان اثنان " ، فإذا قالوا : " دراهم " قالوا : " ثلاثة "، لأن الجمع يلتبس ، و " الواحد " و " الاثنان " لا يلتبسان، ثم بُنِي الواحد والتثنية على بناء [ما] في الجميع، (16) لأنه ينبغي أن يكون مع كل واحدٍ واحدٌ، لأن " درهمًا " يدل على الجنس الذي هو منه، و " واحد " يدل على كل الأجناس. وكذلك " اثنان " يدلان على كل الأجناس، و " درهمان "، يدلان على أنفسهما، فلذلك جاء بالأعداد ، لأنه الأصل.
* * *
وقوله: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ، يقولُ جل ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: إنه لن يصدقك يا محمد ، ولن يتبعك ويقرّ بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدّقك، لا بإكراهك إياه ، ولا بحرصك على ذلك ، (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) لك ، مصدقين على ما جئتهم به من عند ربك؟ يقول له جل ثناؤه: فاصدَعْ بما تؤْمر ، وأعرض عن المشركين الذين حقَّت عليهم كلمة ربّك أنَّهم لا يؤمنون .
------------------------------
الهوامش :
(15) في المطبوعة : " لا يؤمن من قومه " ، زاد ما ليس في المخطوطة ، فحذفته .
(16) في المطبوعة : " لم يثن الواحدة والتثنية على تنافي الجمع " ، وهو لا معنى له . وفي المخطوطة : " ثم بنى الواحد والتثنية على تنافي الجمع " ، هكذا غير منقوطة ، واستظهرت قراءتها كما أثبتها ، بزيادة " ما " بين " بناء "، و" في الجميع " . ومع ذلك فبقى في بيان معنى هذا الكلام ، شيء في نفسي ، أخشى أن يكون سقط منه شيء ، فإنه غير واضح عندي

الثلاثاء، 6 أكتوبر 2015

قال تعالى ﷻ : ﷽ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ البقرة : 208 ]

قال تعالى ﷻ : 
﷽ 
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
[ البقرة : 208 ]


أسباب نزول الآية 
أَخْبَرَنِي أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِيمَا أَذِنَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ : أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّنْعَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :  نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامُوا بِشَرَائِعِهِ وَشَرَائِعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَعَظَّمُوا السَّبْتَ ، وَكَرِهُوا لُحْمَانَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا بَعْدَمَا أَسْلَمُوا ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ ، فَقَالُوا : إِنَّا نَقْوَى عَلَى هَذَا وَهَذَا . وَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابُ اللَّهِ ، فَدَعْنَا فَلْنَعْمَلْ بِهَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ .

تفسير المختصر 
يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله ادخلوا في الإسلام جميعه ، ولا تتركوا منه شيئًا، كما يفعل أهل الكتاب من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ولا تتبعوا مسالك الشيطان؛ لأنه لكم عدو واضح العداوة مظهرها .

تفسير الميسر 
يا أيها الذين آمنوا بالله ربًا وبمحمد نبيًا ورسولا وبالإسلام دينًا, ادخلوا في جميع شرائع الإسلام, عاملين بجميع أحكامه, ولا تتركوا منها شيئًا, ولا تتبعوا طرق الشيطان فيما يدعوكم إليه من المعاصي. إنه لكم عدو ظاهر العداوة فاحذروه.


تفسير السعدي 
هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا { فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أي: في جميع شرائع الدين, ولا يتركوا منها شيئا, وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه, إن وافق الأمر المشروع هواه فعله, وإن خالفه, تركه، بل الواجب أن يكون الهوى, تبعا للدين, وأن يفعل كل ما يقدر عليه, من أفعال الخير, وما يعجز عنه, يلتزمه وينويه, فيدركه بنيته. ولما كان الدخول في السلم كافة, لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: في العمل بمعاصي الله { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } والعدو المبين, لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء, وما به الضرر عليكم.

تفسير الوسيط لطنطاوي 
السِّلْمِ- بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام- بمعنى واحد، ويطلقان على الإسلام وعلى المسالمة. وبعضهم فرق بين اللفظين فجعل «السلّم» بكسر السين- للإسلام، و «السلّم» - بفتحها- للمسالمة، وأنكر المبرد هذه التفرقة.
قال الفخر الرازي: وأصل هذه الكلمة من الانقياد. قال- تعالى-: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. والإسلام إنما سمى إسلاما لهذا المعنى. وغلب اسم السلّم على الصلح وترك الحرب، وهذا أيضا راجع إلى هذا المعنى. لأن عند الصلح ينقاد كل واحد إلى صاحبه»
وكَافَّةً أى جميعا. وهي في الأصل صفة من كف بمعنى منع، واستعملت بمعنى الجملة والجميع بعلاقة أنها مانعة من التفرق وهي حال من قوله: السِّلْمِ أى: يا أيها المؤمنون ادخلوا في الإسلام والتزموا بكل تعاليمه، ونفذوا جميع أحكامه وآدابه، واعملوا بكل أوامره ونواهيه، ولا تكونوا ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. فالمقصود التزام جميع شرائع الإسلام وأحكامه وآدابه.
وبعضهم يرى أن قوله: كَافَّةً حال من فاعل ادخلوا وهو ضمير الجماعة والمعنى عليه:
ادخلوا في الإسلام جميعا، وانقادوا لأحكامه مجتمعين غير متفرقين، لأنه الدين الذي ألف الله به بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا.
وسواء أكان لفظ كَافَّةً حالا من السِّلْمِ أو من فاعل ادْخُلُوا فالمقصود من الآية دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع شعب الإسلام وشرائعه مع التزامهم برباط الإخاء الذي ربط الله به بين قلوبهم بسبب اتباعهم لهذا الدين الحنيف.
وإذا كان المراد بكلمة السِّلْمِ المسالمة والمصالحة كان المعنى: يا أيها الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم فيما بينكم أن تكونوا متصالحين غير متعادين، متحابين غير متباغضين، متجمعين غير متفرقين، كما أنه يوجب عليكم بالنسبة لغيركم ممن هو ليس على دينكم أن تسالموه متى سالمكم، وأن تحاربوه متى اعتدى عليكم، فإن دينكم ما جاء للحرب والخصام وإنما جاء للهداية وللسلام العزيز القوى الذي يرد الاعتداء بمثله.
هذا هو المعنى الذي نراه ظاهرا في الآية، وهو ما سار عليه المحققون من المفسرين.
وبعضهم ذكر أن الخطاب في الآية لمؤمنى أهل الكتاب، لما روى عن ابن عباس أنه قال:
نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام- فعظموا السبت وكرهوا لحم الإبل وألبانها بعد أن أسلموا، فأنكر عليهم المسلمون، فقالوا، إنا نقوى على هذا وهذا وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنعمل بها فأنزل الله هذه الآية. فالخطاب لمؤمنى أهل الكتاب .
وبعضهم ذكر أن المراد بالآية المنافقون والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان. وهذان القولان ضعفهما ظاهر، إذ لا سند لهما يعتمد عليه، ولا يؤيدهما سياق الآية الكريمة، لأن الآية الكريمة صريحة في دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع تعاليم الإسلام، وإلى الإخاء الجامع ونبذ التفرق والاختلاف والاعتداء.
وقوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تحذير لهم مما يصدهم عن الدخول في السلّم.
أى: أدخلوا في السلّم واحذروا أن تتبعوا مدارج الشيطان وطرقه إنه لكم عدو ظاهر العداوة بحيث لا تخفى عداوته على عاقل.
والخطوات. جمع خطوة- بفتح الخاء وضمها- وهي ما بين قدمي من يخطو.
وفي قوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إشعار بأن الشيطان كثيرا ما يجر الإنسان إلى الشر خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. والعاقل من الناس هو الذي يبتعد عن كل ما هو من نزغات الشيطان ووساوسه، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ جملة تعليلية، مؤكدة للنهى ومبينة لحكمته.

تفسير البغوي 
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) قرأ أهل الحجاز والكسائي السلم هاهنا بفتح السين وقرأ الباقون بكسرها وفي سورة الأنفال " وإن جنحوا للسلم "بالكسر وقرأ أبو بكر والباقون بالفتح وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم بالكسر حمزة وأبو بكر .
نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام النضيري وأصحابه وذلك أنهم كانوا يعظمون السبت ويكرهون لحمان الإبل وألبانها بعدما أسلموا وقالوا : يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها في صلاتنا بالليل فأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) أي في الإسلام قال مجاهد في أحكام أهل الإسلام وأعمالهم ) ( كافة ) أي جميعا وقيل : ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه كافين عن المجاوزة إلى غيره وأصل السلم من الاستسلام والانقياد ولذلك قيل للصلح سلم قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية : الإسلام ثمانية أسهم فعد الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة ، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال : قد خاب من لا سهم له .
( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) أي آثاره فيما زين لكم من تحريم السبت ولحوم الإبل وغيره ( إنه لكم عدو مبين )
أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو العباس الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام أخبرنا هشيم أخبرنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال : إنا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال : " أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " .

تفسير ابن كثير 
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله : أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك .
قال العوفي ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، والضحاك ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد ، في قوله : ( ادخلوا في السلم ) يعني : الإسلام .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس : ( ادخلوا في السلم ) يعني : الطاعة . وقال قتادة أيضا : الموادعة .
وقوله : ( كافة ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والربيع ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة والضحاك : جميعا ، وقال مجاهد : أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر .
وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم ، كعبد الله بن سلام ، وثعلبة وأسد بن عبيد وطائفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يسبتوا ، وأن يقوموا بالتوراة ليلا . فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها . وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر ، إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت ، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه ، والتعويض عنه بأعياد الإسلام .
ومن المفسرين من يجعل قوله : ( كافة ) حالا من الداخلين ، أي : ادخلوا في الإسلام كلكم . والصحيح الأول ، وهو أنهم أمروا [ كلهم ] أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ، وهي كثيرة جدا ما استطاعوا منها . وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا علي بن الحسين ، أخبرنا أحمد بن الصباح ، أخبرني الهيثم بن يمان ، حدثنا إسماعيل بن زكريا ، حدثني محمد بن عون ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) كذا قرأها بالنصب يعني مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم ، فقال الله : ( ادخلوا في السلم كافة )يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تدعوا منها شيئا وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها .
وقوله : ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان )أي : اعملوا الطاعات ، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان ف ( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) [ البقرة : 169 ] ، و ( إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) [ فاطر : 6 ] ; ولهذا قال : ( إنه لكم عدو مبين ( قال مطرف : أغش عباد الله لعبيد الله الشيطان .


تفسير القرطبي 
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
لما بين الله سبحانه الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق فقال : كونوا على ملة واحدة ، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه . فالسلم هنا بمعنى الإسلام ، قاله مجاهد ، ورواه أبو مالك عن ابن عباس . ومنه قول الشاعر الكندي :
دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا
أي إلى الإسلام لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأشعث بن قيس الكندي ، ولأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح ، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا له ، وأما أن يبتدئ بها فلا ، قاله الطبري . وقيل : أمر من آمن بأفواههم أن يدخلوا فيه بقلوبهم . وقال طاوس ومجاهد : ادخلوا في أمر الدين . سفيان الثوري : في أنواع البر كلها . وقرئ السلم بكسر السين .
قال الكسائي : السلم والسلم بمعنى واحد ، وكذا هو عند أكثر البصريين ، وهما جميعا يقعان للإسلام والمسالمة . وفرق أبو عمرو بن العلاء بينهما ، فقرأها هنا : ادخلوا في السلم وقال هو الإسلام . وقرأ التي في " الأنفال "والتي في سورة " محمد " صلى الله عليه وسلم " السلم " بفتح السين ، وقال : هي بالفتح المسالمة . وأنكر المبرد هذه التفرقة . وقال عاصم الجحدري : السلم الإسلام ، والسلم الصلح ، والسلم الاستسلام . وأنكر محمد بن يزيد هذه التفريقات وقال : اللغة لا تؤخذ هكذا ، وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس ، ويحتاج من فرق إلى دليل . وقد حكى البصريون : بنو فلان سلم وسلم وسلم ، بمعنى واحد . قال الجوهري : والسلم الصلح ، يفتح ويكسر ، ويذكر ويؤنث ، وأصله من الاستسلام والانقياد ، ولذلك قيل للصلح : سلم . قال زهير :
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا بمال ومعروف من الأمر نسلم
ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام بما تقدم . وقال حذيفة بن اليمان في هذه الآية : الإسلام ثمانية أسهم ؛ الصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصوم سهم ، والحج سهم ، والعمرة سهم ، والجهاد سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، وقد خاب من لا سهم له في الإسلام . وقال ابن عباس : ( نزلت الآية في أهل الكتاب ، والمعنى ، يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم كافة ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار . و " كافة "معناه جميعا ، فهو نصب على الحال من السلم أو من ضمير المؤمنين ، وهو مشتق من قولهم : كففت أي منعت ، أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام . والكف المنع ، ومنه كفة القميص - بالضم - لأنها تمنع الثوب من الانتشار ، ومنه كفة الميزان - بالكسر - التي تجمع الموزون وتمنعه أن ينتشر ، ومنه كف الإنسان الذي يجمع منافعه ومضاره ، وكل مستدير كفة ، وكل مستطيل كفة . ورجل مكفوف البصر ، أي منع عن النظر ، فالجماعة تسمى كافة لامتناعهم عن التفرق .
ولا تتبعوا نهي . خطوات الشيطان مفعول ، وقد تقدم . وقال مقاتل : استأذن عبد الله بن سلام وأصحابه بأن يقرءوا التوراة في الصلاة ، وأن يعملوا ببعض ما في التوراة ، فنزلت : ولا تتبعوا خطوات الشيطان فإن اتباع السنة أولى بعدما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من خطوات الشيطان . وقيل : لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان .
إنه لكم عدو ظاهر العداوة ، وقد تقدم .


تفسير الطبري 
القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناه: الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
&; 4-252 &;
4008 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " ادخلوا في السِّلم "، قال: ادخلوا في الإسلام.
4009 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: " ادخلوا في السلم "، قال: ادخلوا في الإسلام.
4010 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " ادخلوا في السلم كافة "، قال: السلم: الإسلام.
4011 - حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " ادخلوا في السلم "، يقول: في الإسلام.
4012 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: ادخلوا في الإسلام.
4013 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " ادخلوا في السلم ". قال: السلم: الإسلام.
4014 - حدثت عن الحسين بن فرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: " ادخلوا في السلم " : في الإسلام.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادخلوا في الطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
4015 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " ادخلوا في السلم "، يقول: ادخلوا في الطاعة.
* * *
وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز: " ادخلوا في السَّلم " بفتح السين، وقرأته عامة قرأة الكوفيين بكسر السين.
&; 4-253 &;
فأما الذين فتحوا " السين " من " السلم "، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة، بمعنى: ادخلوا في الصلح والمساومة وترك الحرب وإعطاء الجزية.
وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من " السين " فإنهم مختلفون في تأويله.
فمنهم من يوجهه إلى الإسلام، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة، ومنهم من يوجّهه إلى الصلح، بمعنى: ادخلوا في الصلح، ويستشهد على أن " السين "تكسر، وهي بمعنى الصلح بقول زهير بن أبي سلمى:
وَقَـدْ قُلْتُمَـا إنْ نُـدْرِكِ السِّـلْمَ وَاسِعًا
بِمَـالٍ وَمَعْـرُوفٍ مِـنَ الأمْـرِ نَسْـلَمِ (61)
وأولى التأويلات بقوله: " ادخلوا في السلم "، قول من قال: معناه: ادخلوا في الإسلام كافة.
وأمّا الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك، فقراءة من قرأ بكسر " السين " لأن ذلك إذا قرئ كذلك - وإن كان قد يحتمل معنى الصلح - فإن معنى الإسلام: ودوام الأمر الصالح عند العرب، أغلبُ عليه من الصلح والمسالمة، وينشد بيت أخي كندة:
دَعَــوْتُ عَشِــيرَتِي لِلسِّــلْمِ لَمّـا
رَأَيْتُهُــــمُ تَوَلَّـــوْا مُدْبِرينَـــا (62)
&; 4-254 &; بكسر السين، بمعنى: دعوتهم للإسلام لما ارتدُّوا، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث (63) بعد وَفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائرَ ما في القرآن من ذكر " السلم "بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة، فإنه كان يخصُّها بكسر سينها توجيهًا منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها.
وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله: " ادخلوا في السلم " وصرفنا معناه إلى الإسلام، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون، فلن يعدوَ الخطاب إذ كان خطابًا للمؤمنين من أحد أمرين:
إما أن يكون خطابًا للمؤمنين بمحمد المصدقين به وبما جاء به، فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان: " ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم "، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربًا بترك الحرب، فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له: " صالح فلانا "، ولا حرب بينهما ولا عداوة.
= أو يكون خطابًا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدِّقين بهم، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدًا ونبوته، فقيل لهم: " ادخلوا في السلم "، يعني به الإسلام، لا الصُّلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى الذي دعاهم دون المسالمة والمصالحة. بل نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الصلح (64) فقال: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ &; 4-255 &; مَعَكُمْ  [محمد: 35]وإنما أباحَ له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال إذا دعَوه إلى الصلح ابتداءَ المصالحة، فقال له جل ثناؤه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا  [الأنفال: 61] فأما دعاؤهم إلى الصُّلح ابتداءً، فغير موجود في القرآن، فيجوزُ توجيه قوله: " ادخلوا في السلم " إلى ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأيّ هذين الفريقين دعي إلى الإسلام كافة ؟
قيل قد اختلف في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: دعي إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به.
* * *
وقال آخرون: قيل: دُعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المكذبون بمحمد.
* * *
فإن قال: فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام ؟
قيل: وجه دُعائه إلى ذلك الأمرُ له بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه، كان قوله " كافة " من صفة " السلم "، ويكون تأويله: ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم، ولا تضيعوا شيئًا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به.
وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك.
4016 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: " ادخلوا في السلم كافة " ، قال: نـزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسَيْد ابني كعب وسَعْيَة بن عمرو (65) &; 4-256 &; وقيس بن زيد- كلهم من يهود- قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يومٌ كنا نعظمه، فدعنا فلنُسبِت فيه! وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل ! فنـزلت: " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان " (66)
* * *
فقد صرح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام، والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضييع شيء من حدوده.
* * *
وقال آخرون: بل الفريق الذي دُعي إلى السلم فقيل لهم: " ادخلوا فيه "بهذه الآية هم أهل الكتاب، أمروا بالدخول في الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
4017 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال. قال ابن عباس في قوله: " ادخلوا في السلم كافة "، يعني أهل الكتاب.
4018 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قول الله عز وجل: " ادخلوا في السلم كافة "، قال: يعني أهل الكتاب.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في" الذين آمنوا " المصدِّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما حاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع &; 4-257 &; شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم " الإيمان "، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.
وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.
4019 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " ادخلوا في السلم كافة "، قال: ادخلوا في الإسلام كافة، ادخلوا في الأعمال كافة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : كَافَّةً
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله (67) " كافة " عامة، جميعًا، كما:-
4020 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: " في السلم كافة "قال: جميعًا.
4021 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " في السلم كافة "، قال: جميعًا.
4022 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع " في السلم كافة "، قال: جميعًا= وعن أبيه، عن قتادة مثله.
4023 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، عن النضر، عن مجاهد، ادخلوا في الإسلام جميعًا.
4024 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: " كافة "، : جميعًا.
&; 4-258 &;
4025 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: " كافة "جميعًا، وقرأ. وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً  [التوبة: 36]جميعًا.
4026 - حدثت عن الحسين، قال. سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: " ادخلوا في السلم كافة "، قال: جميعًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه. بذلك: اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولا وعملا ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم عداوته. (68) وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تسبيت السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام.
* * *
وقد بينت معنى " الخطوات " بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى ، فكرهت إعادته في هذا المكان. (69)
-------------------
الهوامش :
(61) ديوانه : 16 من معلقته النبيلة . والضمير في"قلتما" للساعيان في الصلح وهما الحارث ابن عوف وهرم بن سنان ، وذلك في حرب عبس وذبيان . وقوله : "واسعًا" أي : قد استقر الأمرواطمأنت النفوس فاتسع للناس فيه ما لا يتسع لهم في زمن الحرب . وكان الحارث وهرم قد حملا الحمالة في أموالهما ، ليصطلح الناس .
(62) من أبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي وتروى لغيره . المؤتلف والمختلف : 9 والوحشيات : 75 وغيرهما وكان امرؤ القيس قد وفد على رسول الله صلى اله عليه وسلم ولم يرتد في أيام أبي بكر ، وأقام على الإسلام وكان له في الردة غناء وبلاء ، وقد قال الأبيات في زمن الردة وقبل البيت :
أَلاَ أَبْلِـــغْ أبَــا بَكْــرٍ رَسُــولاً
وَأَبْلِغْهَــا جَـــمِيعَ المُسْـــلِمِينَا
فَلَسْــتُ مُجَــاوِرًا أَبَــدًا قَبِيــلاً
بِمَــا قَــالَ الرَّسُــولُ مُكَذِّبِينَــا
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ حَتَّى رَأَيْتُهُمُ أَغَارُوا مُفْسِدينَا
(63) هو الأشعث بن قيس الكندين وكان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة في سبعين راكبا من كندة ثم ارتد فيمن ارتد من العرب . وقاتل في الردة حتى هزم ثم استسلم وأسر وقدموا به على أبي بكر فقال له أبو بكر : ماذا تراني أصنع بك؟ فإنك قد فعلت ما علمت قال الأشعث : تمن علي فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت وأسلمت . فقال أبو بكر : قد فعلت! فزوجه ام فروة بنت أبي قحافة ، فكان بالمدينة حتى فتح العراق . ثم شهد الفتوح حتى مات سنة 40 ، وله ثلاث وستون سنة .
(64) في المطبوعة : " . . عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام" وهو خطأ لا شك فيه ، سبق قلم الكاتب فوضع"الإسلام" مكان"الصلح"ومحال أن ينهى الله نبيه عن دعاء أحد إلى الإسلام والسياق دال على الصواب كما ترى .
(65) في المطبوعة : "شعبة" وفي الدر المنثور : "سعيد" والذي في أسماء يهود : "سعية" و"سعنة" وأكثر هذه الأسماء من أسماء يهود مما يصعب تحقيقها ويطول ، لكثرة الاختلاف فيها .
(66) الأثر : 4016 - في الدر المنثور 1 : 241 .
(67) في المطبوعة : "جل ثناؤه : كافة"بإسقاط"بقوله" وهذا سياق الكلام .
(68) انظر تفسير"عدو مبين" فيما سلف 3 : 300 .
(69) انظر ما سلف 3 : 301 ، 302 .

الأحد، 4 أكتوبر 2015

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}

﷽ 
قال تعالى ﷻ : 
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}
 [الأحزاب : 1]

تفسير السعدي 
أي: يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة، واختصه بوحيه، وفضله على سائر الخلق، اشكر نعمة ربك عليك، باستعمال تقواه، التي أنت أولى بها من غيرك، والتي يجب عليك منها، أعظم من سواك، فامتثل أوامره ونواهيه، وبلغ رسالاته، وأدِّ إلى عباده وحيه، وابذل النصيحة للخلق.
ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد، ولا يردك عنه راد، فلا تطع كل كافر، قد أظهر العداوة للّه ورسوله، ولا منافق، قد استبطن التكذيب والكفر، وأظهر ضده.
فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة، فلا تطعهم في بعض الأمور، التي تنقض التقوى، وتناقضها، ولا تتبع أهواءهم، فيضلوك عن الصواب.

تفسير الوسيط لطنطاوي 
مقدّمة
1- سورة الأحزاب هي السورة الثالثة والثلاثون في ترتيب المصحف وهي من السور المدنية، وكان نزولها بعد سورة آل عمران، أى: أنها من أوائل السور المدنية، إذ لم يسبقها في النزول بعد الهجرة سوى سور: البقرة والأنفال وآل عمران.
ويبدو: أن نزولها كان في الفترة التي أعقبت غزوة بدر، إلى ما قبل صلح الحديبية. وعدد آياتها ثلاث وسبعون آية.
2- وقد افتتحت سورة الأحزاب بنداء من الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم، نهته فيه عن طاعة المنافقين والكافرين، وأمرته بالمداومة على طاعة الله- تعالى- وحده، وباتباع أمره، وبالتوكل عليه- سبحانه-.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
3- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان حكم الله- تعالى- في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة في المجتمع في ذلك الوقت، فأبطلت التبني، كما أبطلت ما كان سائدا في المجتمع من عادة الظهار، وهو أن يقول الرجل لزوجته: أنت على كظهر أمى، فتصير محرمة عليه حرمة مؤبدة.
قال- تعالى-: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ، وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ، ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ، وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ.
4- ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بعض الأحكام التشريعية الأخرى، كوجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة تفوق طاعتهم لأنفسهم، ولوجوب تعظيم المسلمين لزوجاته صلى الله عليه وسلم كتعظيم أمهاتهم، وكوجوب التوارث بين الأقارب بالطريقة التي بينها-سبحانه- في آيات أخرى، وإبطال التوارث عن طريق المؤاخاة التي تمت بعد الهجرة بين المهاجرين والأنصار.
قال- تعالى-: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً.
5- ثم وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين، ذكرهم فيه بجانب من نعمه عليهم، حيث دفع عنهم جيوش الأحزاب، وأرسل على تلك الجيوش جنودا من عنده لم يروها، وكشف عن رذائل المنافقين التي ارتكبوها في تلك الغزوة، ومدح المؤمنين الصادقين على وفائهم بعهودهم، وكافأهم على ذلك بأن أورثهم أرض أعدائهم وديارهم.
قال- تعالى-: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ. وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
وبعد هذا الحديث المفصل عن غزوة الأحزاب، والذي استغرق ما يقرب من عشرين آية، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيرهن بين التسريح بإحسان، وبين الصبر على شظف العيش، ليظفرن برضا الله- تعالى- كما وجهت نداء إليهن أمرتهن فيه، بالتزام الآداب الدينية التي تليق بهن. لأنهن في مكان القدوة لسائر النساء.
كما أمرتهن بالبقاء في بيوتهن، فلا يخرجن لغير حاجة مشروعة. ومثلهن في ذلك مثل سائر نساء المسلمين. حتى يتفرغن لرعاية شئون بيوتهن التي هي من خصائصهن وليست من خصائص الرجال.
ثم ختم- سبحانه- تلك التوجيهات الحكيمة ببيان الثواب الجزيل الذي أعده للمؤمنين والمؤمنات، فقال- تعالى-: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ. وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ. وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
7- ثم أشارت السورة بعد ذلك إلى قصة زواج النبي صلّى الله عليه وسلم بالسيدة زينب بنت جحش. وإلى الحكمة من ذلك. وإلى تطليق زيد بن حارثة لها. وإلى أن ما فعله رسول صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة لهذه الحادثة. كان بأمر الله- تعالى- وإذنه.
قال- تعالى-: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ثم وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بالإكثار من ذكر الله- تعالى- ومن تسبيحه وتنزيهه. كما وجهت نداء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينت له فيه وظيفته، قال- تعالى-:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً.
9- ثم تحدثت السورة بعد ذلك بشيء من التفصيل عن بعض الأحكام التي تتعلق بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعلاقته صلّى الله عليه وسلّم بهن من حيث القسم وغيره، ومن حيث الزواج بغيرهن.
كما تحدثت عن الآداب التي يجب على المؤمنين أن يلتزموها عند دخولهم بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم بدعوة منه. لأجل تناول طعام، أو لأجل أمر من الأمور الأخرى التي تتعلق بدينهم أو دنياهم.
ثم ختمت هذه الآيات بقوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
10- وبعد هذا البيان المفصل لكثير من الأحكام والآداب، أخذت السورة الكريمة في أواخرها، في تهديد المنافقين الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفي بيان أن سنن الله في خلقه لا تتخلف، وأن علم وقت قيام الساعة إلى الله- تعالى- وحده، وأن الإصرار على الكفر يؤدى إلى سوء العاقبة، وأن السير على طريق الحق. يؤدى إلى مغفرة الذنوب.
وأن الإنسان قد ارتضى حمل الأمانة. التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال.
قال- تعالى-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ، وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
11- ومن هذا العرض المجمل لآيات سورة الأحزاب، نرى أنها قد اهتمت بموضوعات من أبرزها ما يلي:
(أ) كثرة التوجيهات والإرشادات، من الله- تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم إلى أفضل الأحكام، وأقوم الآداب، وأهدى السبل.
وهذه التوجيهات والإرشادات. نراها في كثير من آيات سورة الأحزاب لا سيما التي نادت الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوصف النبوة.
ومن ذلك قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ.
وقوله- سبحانه- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها.
وقوله- عز وجل-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً.
وقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ.
وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ.
(ب) أمر المؤمنين بطاعة الله- تعالى-، وبطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلم، ونهيهم عن كل مأمن شأنه أن يتعارض مع تشريعات الإسلام ومع آدابه.
وهذه الأوامر والنواهي، نراها في كثير من آيات هذه السورة الكريمة.
ومن ذلك قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها.
وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
وقوله- عز وجل-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها....
وقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا.
وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً.
(ج) هذه السورة الكريمة تعتبر على رأس السور القرآنية التي اهتمت ببيان فضل نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وحقوقهن، وواجباتهن وخصائصهن.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ....
وقوله- سبحانه-: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ....
وقوله- عز وجل-: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ، وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ....
وقوله- سبحانه-: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ...
وقوله- تعالى-: ... وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ...
وقوله- عز وجل-: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ...
(د) هذه السورة تعتبر من أجمع السور القرآنية التي تعرضت لكثير من الأحكام الشرعية، والآداب الاجتماعية، التي لا تتغير بتغير الزمان أو المكان.
ومن ذلك حديثها عن الظهار، وعن التبني. وعن التوارث بين الأقارب دون غيرهم، وعن وجوب تقديم طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على طاعة الإنسان لنفسه، وعن وجوب التأسى به، وعن وجوب الابتعاد عن كل ما يؤذيه أو يجرح شعوره، وعن وجوب الخضوع لحكم الله- تعالى- ولحكم رسوله صلّى الله عليه وسلم.
قال- تعالى-: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً.
(هـ) السورة الكريمة فصلت الحديث عن غزوة الأحزاب، التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة بين المسلمين وأعدائهم.
فبدأت حديثها عن تلك الغزوة بتذكير المؤمنين بفضل الله- تعالى- عليهم في هذه الغزوة، ثم صورت أحوالهم عند إحاطة جيوش الأحزاب بالمدينة المنورة.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.
ثم حكت أقوال المنافقين القبيحة، وأفعالهم الذميمة، وردت عليهم بما يفضحهم، وبما يكشف عن سوء أخلاقهم.
قال- تعالى-: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
ثم مدحت المؤمنين الصادقين لوفائهم بعهودهم، ولشجاعتهم في مواجهة أعدائهم.
قال- سبحانه-: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.
وكما بدأت السورة حديثها عن غزوة الأحزاب بتذكير المؤمنين بنعم الله عليهم- ختمته- أيضا- بهذا التذكير، لكي يزدادوا شكرا له- عز وجل-.
قال- تعالى-: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
(و) والخلاصة أن المتأمل في سورة الأحزاب، يراها زاخرة بالأحكام الشرعية، وبالآداب الاجتماعية، وبالتوجيهات الربانية، تارة من الله- تعالى- لرسوله صلّى الله عليه وسلم وتارة لأزواجه صلّى الله عليه وسلم، وتارة للمؤمنين.
كما يراها تهتم اهتماما واضحا بتنظيم المجتمع الإسلامى تنظيما حكيما، من شأنه أن يأخذ بيد المتبعين له إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
افتتحت سورة الأحزاب بهذا النداء لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم وبهذا الوصف الكريم ، وهو الوصف بالنبوة ، على سبيل التشريف والتعظيم .
قال صاحب الكشاف : جعل - سبحانه - نداءه بالنبى والرسول فى قوله : ( ياأيها النبي ) . ( ياأيها الرسول )وترك نداءه باسمه ، كما قال : يا آدم ، يا موسى ، يا عيسى ، يا داودك كرامة له وتشريفا ، وتنويها بفضله .
فإن قلت : إن لم يوقع فى النداء . فقد أوقعه فى الإِخبار ، فى قوله : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله ) قلت : ذلك لتعليم الناس بأنه رسول ، وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به .
والمراد بأمره بتقوى الله : المداومة على ذلك ، والازدياد من هذه التقوى .
أى : واظب - أيها النبى الكريم - على تقوى الله ، وعلى مراقبته ، وعلى الخوف منه ، وأكثر من ذلك ، فإن تقوى الله ، على رأس الفضائل التى يحبها - سبحانه - .
قال ابن كثير : هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى ، فإنه - تعالى - إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا ، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى .
وقد قال خلف بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجوا ثواب الله .
وبعد الأمر بالتقوى ، جاء النهى عن طاعة غير المؤمنين ، فقال - تعالى - : ( وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ) . أى : واظب - أيها النبى الكريم - على تقوى الله ، واجتنب طاعة الكافرين الذين جحدوا نعم الله عليهم ، وعبدوا معه آلهة أخرى ، واجتنب كذلك طاعة المنافقين الذين يظهرون الإِسلام ويخفون الكفر .
وفى إيراد هذا النهى بعد الأمر بتقوى الله ، إشارة وإيحاء إلى ما كان يبذله هؤلاء الكافرون والمنافقون من جهود عنيفة ، لزحزحة النبى صلى الله عليه وسلم عما هو عليه من حق ، ولصرفه عن دعوتهم إلى الإِسلام .
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : أن جماعة من أهل مكة ، طلبوا من النبى صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن قوله ، وأن يعطوه شطر أموالهم ، وأن المنافقين واليهود بالمدينة هدوده بالقتل إن لم يرجع عن دعوتهم إلى الإِسلام ، فنزلت .
وقوله - تعالى - ( إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ) : تعليل الأمر والنهى ، أى : اتبع ما أمرناك به ، ومنا نهيناك عنه ، لأن الله - تعالى - عليم بكل شئ ، وحكيم فى كل أقواله وأفعاله .

تفسير البغوي 
"يا أيها النبي اتق الله"، نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا، اللات والعزى ومناة، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم، فقال عمر: يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم، فقال: إني قد أعطيتهم الأمان، فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله تعالى: "يا أيها النبي اتق الله"، أي: دم على التقوى، كالرجل يقول لغيره وهو قائم: قم ها هنا، أي: اثبت قائماً. وقيل الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمى. وقال الضحاك: معناه اتق الله ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم. "ولا تطع الكافرين" من أهل مكة، يعني: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور، "والمنافقين"، من أهل المدينة، عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد، وطعمة "إن الله كان عليماً"، بخلقه، قبل أن خلقهم، "حكيماً" فيما دبره لهم.

تفسير ابن كثير 
سورة الأحزاب: قال الإمام أحمد حدثنا خلف بن هشام حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر قال: قال لي أبي بن كعب كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها؟ قال قلت ثلاثًا وسبعين آية فقال قط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنا فارجموه البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ورواه النسائي من وجه آخر عن عاصم وهو ابن أبي النجود وهو أبو بهدلة به وهذا إسناد حسن وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا والله أعلم.

هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى وقد قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله.

قوله تعالى "ولا تطع الكافرين والمنافقين" أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم "إن الله كان عليما حكيما"أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه فإنه عليم بعواقب الأمور حكيم في أقواله وأفعاله.

تفسير القرطبي 
سورة الأحزاب
مدنية في قول جميعهم . نزلت في المنافقين وإيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطعنهم فيه وفي مناكحته وغيرها . وهي ثلات وسبعون آية . وكانت هذه السورة تعدل سورة البقرة . وكانت فيها آية الرجم : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ; ذكره أبو بكر الأنباري عن أبي بن كعب . وهذا يحمله أهل العلم على أن الله تعالى رفع من الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا ، وأن آية الرجم رفع لفظها . وقد حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي آية ، فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن . قال أبو بكر : فمعنى هذا من قول أم المؤمنين عائشة : أن الله تعالى رفع إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندنا .
قلت : هذا وجه من وجوه النسخ ، وقد تقدم في ( البقرة ) القول فيه مستوفى والحمد لله . وروى زر قال : قال لي أبي بن كعب : كم تعدون سورة الأحزاب ؟ قلت ثلاثا وسبعين آية ; قال : فوالذي يحلف به أبي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم . أراد أبي أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن . وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليف الملاحدة والروافض .
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما .
قوله تعالى : يا أيها النبي اتق الله ضمت ( أي ) لأنه نداء مفرد ، والتنبيه لازم لها . و ( النبي ) نعت ل ( أي )عند النحويين ; إلا الأخفش فإنه يقول : إنه صلة ل ( أي ) . مكي : ولا يعرف في كلام العرب اسم مفرد صلة لشيء . النحاس : وهو خطأ عند أكثر النحويين ; لأن الصلة لا تكون إلا جملة ، والاحتيال له فيما قال إنه لما كان نعتا لازما سمي صلة ; وهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها . ولا يجوز نصبه على الموضع عند أكثر النحويين . وأجازه المازني ، جعله كقولك : يا زيد الظريف ، بنصب ( الظريف ) على موضع زيد . مكي : وهذا نعت يستغنى عنه ، ونعت ( أي ) لا يستغنى عنه فلا يحسن نصبه على الموضع . وأيضا فإن نعت ( أي ) هو المنادى في المعنى فلا يحسن نصبه . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود : قريظة والنضير وبني قينقاع ; وقد تابعه ناس منهم على النفاق ، فكان يلين لهم جانبه ; ويكرم صغيرهم وكبيرهم ، وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه ، وكان يسمع منهم ; فنزلت . وقيل ; إنها نزلت فيما ذكر الواحدي والقشيري والثعلبي والماوردي وغيرهم في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان ، نزلوا المدينة على عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين بعد أحد ، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة ، وقل إن لها شفاعة ومنعة لمن عبدها ، وندعك وربك . فشق على النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا . فقال عمر : يا رسول الله ، ائذن لي في قتلهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني قد أعطيتهم الأمان فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة ; فنزلت الآية . يا أيها النبي اتق الله أي خف الله . ولا تطع الكافرين من أهل مكة ، يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة . والمنافقين من أهل المدينة ، يعني عبد الله بن أبي وطعمة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح فيما نهيت عنه ، ولا تمل إليهم . إن الله كان عليما بكفرهم حكيما فيما يفعل بهم . الزمخشري : وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينه وبينهم ، وقام معهم عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفض ذكر آلهتنا . وذكر الخبر بمعنى ما تقدم . وأن الآية نزلت في نقض العهد ونبذ الموادعة . ولا تطع الكافرين من أهل مكة . والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك . وروي أن أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم ، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته ، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع ; فنزلت . النحاس : ودل بقوله إن الله كان عليما حكيما على أنه كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام ; أي لو علم الله عز وجل أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه ; لأنه حكيم . ثم قيل : الخطاب له ولأمته .

تفسير الطبري
القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ )بطاعته، وأداء فرائضه، وواجب حقوقه عليك، والانتهاء عن محارمه، وانتهاك حدوده ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ) الذين يقولون لك: اطرد عنك أتباعك من ضعفاء المؤمنين بك حتى نجالسك ( وَالْمُنَافِقِينَ ) الذين يظهرون لك الإيمان بالله والنصيحة لك، وهم لا يألونك وأصحابك ودينك خبالا فلا تقبل منهم رأيا، ولا تستشرهم مستنصحا بهم، فإنهم لك أعداء (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) يقول: إن الله ذو علم بما تضمره نفوسهم، وما الذي يقصدون في إظهارهم لك النصيحة، مع الذي ينطوون لك عليه، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك ودينك، وغير ذلك من تدبير جميع خلقه .